ماذا جرى؟

حين يتحقق الكابوس

في غزة، تلك المدينة التي تتنفس الصبر مع كل شهيق وتزفر الحزن مع كل زفير، حيث الحرب ليست حدثًا بل حالة أبدية، حلمت ذات ليلة حلمًا غريبًا. كان في بدايات الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، وكنت حينها أحاول أن أمسك بأطراف الأمل كي لا ينفلت مني.

في الحلم، وجدت نفسي في غرفة غريبة. الجدران حولي رمادية، تفتقد للألوان كما افتقدت حياتنا للحياة. في منتصف الغرفة، طاولة مستديرة. شعرت بثقل المكان، وكأن الهواء نفسه يعاقبني على وجودي. جلست هناك، أواجه بنيامين نتنياهو. لم يكن لقاءً عادياً، بل كان أشبه بمسرحية عبثية. على يمينه زوجته، سارة، تجلس كتمثال من حجر، لا يرف لها جفن. وعلى يساري، زوجتي وأبنائي الستة، كأنهم درعي في هذا العالم الذي ينهار.

كان على الطاولة أمامنا طبقان، في كل منهما قطعة لحم ضخمة. لم تكن قطعًا عادية؛ كان يحيط بها هالة من الظلام. رائحتها… لا، لم تكن رائحة لحمٍ طازج. كان هناك شيء يصرخ في داخلي: هذا لحم بشري!.

بدأ الصراع. كان نتنياهو يبتسم تلك الابتسامة التي تخفي وراءها كل الغدر. مدّ يده نحو القطعة الأكبر. كنت أعرف أن الأمر ليس مجرد قطعة لحم، بل رمزية لأكثر من ذلك. صرخت، طالبًا منه أن يتركها. “هذه حقي!”، قلتها بكل ما في صوتي من رجاء وغضب. لكنه لم يتردد. أمسك بالقطعة، وكأنها كانت ملكه منذ الأزل.

نهضت، ومددت يدي لأمسك بقميصه. أردت أن أصرخ في وجهه، أن أهدده، أن أجعله يشعر بالخوف. لكن حين نظرت إلى جانبي، لم أجد أحدًا. زوجتي… التي كانت بجانبي قبل لحظات، اختفت. ابني البكر، مهدي، الذي كان دائمًا أول من يقف معي، غاب هو الآخر. شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميّ. ضعف جسدي فجأة، وسقطت على الكرسي. كان نتنياهو ينظر إليّ بعيون تملؤها السخرية، وضحك، ضحك بصوت عالٍ، ضحكة لم أسمع مثلها من قبل. كانت ضحكته أكثر ألمًا من كل أصوات الانفجارات التي مزقت سماء غزة.

تحقق الكابوس

بعد أيام قليلة من الحلم الذي بدا وكأنه نبوءة حزينة، كنت قد انتقلت إلى جنوب غزة بعد الإفراج عني، بينما بقيت أسرتي في الشمال. كنت أحاول التمسك بخيوط الأمل الرقيقة، محاولاً أن أبدأ من جديد. لكن غزة، كما هو حالها دائمًا، لا تمنحنا فرصة للنسيان أو للتعافي.

في ذلك اليوم، كانت الأخبار تتوالى كعادتها، صوت المذيع الرتيب كان جزءًا من خلفية حياتنا اليومية. فجأة، انقطع النسق الاعتيادي، وجاء الخبر الذي أصابني وكأنه سهم أصاب القلب. ضربة مدمرة استهدفت الحي الذي تسكنه أسرتي. للحظة، شعرت أن كل شيء حولي قد تجمد. الكلمات لم تعد تُسمع بوضوح، وبدأت أشعر وكأن شيئًا أثقل من الجبال يجثم على صدري.

حاولت أن أصدق أن الأمر قد يكون مجرد تهويل إعلامي. لكن قلبي كان يعرف الحقيقة قبل أن تصلني التفاصيل. كل خطوة على الطريق نحو الشمال كانت تحمل ثقلاً لا يُحتمل، حتى وصلت الأخبار المؤكدة. زوجتي التي كانت ملجئي، مهدي، ابني البكر الذي كان سندي في الحياة، لم يعودا موجودين. فقط الأنقاض والشظايا، وذاكرة تحترق مع كل لحظة.

تذكرت الحلم بكل تفاصيله. الطاولة، اللحم، الضحكة القاسية. لم يكن حلمًا عابرًا؛ كان رسالة تحذيرية لم أفهمها في وقتها. شعرت أنني في مواجهة الحقيقة العارية، وأن العالم قد انهار من حولي.

على حافة القوة

في تلك اللحظات التي كنت أقف فيها على أنقاض حياتي، شعرت بالهزيمة تسري في كل خلية من جسدي. بدا لي أن الحرب انتصرت أخيرًا، وأنني فقدت كل شيء كنت أحارب من أجله. لكن وسط كل هذا الظلام، كان هناك بصيص صغير من الضوء. باقي أطفالي كانوا هناك، ينظرون إليّ بأعين تحمل الألم والخوف، لكن أيضًا الأمل. وكأنهم يهمسون لي: “نحن هنا. نحن ما تبقى.”

حينها، أدركت أن الألم لن يكون خاتمتي، وأن خسارتي العظيمة ليست نهاية القصة. زوجتي ومهدي لم يغادرا ليتركا فراغًا فقط، بل ليكونا جزءًا من قصة أكبر، ليحملا رسالتي إلى العالم، ويذكّراني بأن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل بالصبر، بالكلمة، وبالتوثيق.

قررت أن أكتب، أن أحكي قصتنا وقصص من فقدناهم. أن أجعل العالم يعرف أن غزة، رغم الألم والخسارة، ستظل صامدة. وأن تلك الضحكة التي سمعتها في الحلم لن تكون آخر ما يسمعه العالم عنا.

الحياة بعد الكابوس

لم تعد الضحكة التي سمعتها في الحلم مجرد صوت، بل أصبحت رمزًا لكل ما نحن ضده. أصبحت أكتب، أروي قصتي، وقصتهم، وقصة كل من فقدناهم. أصبح الحلم الذي تحقق بمثابة وعد: لن أسمح لتلك الضحكة بأن تكون آخر ما يسمعه العالم عنا.

غزة علمتني الكثير. علمتني أن الألم جزء من الحياة، لكنه أيضًا يمكن أن يكون مصدرًا للقوة. علمتني أن الفقد ليس نهاية، بل بداية لحكاية جديدة. واليوم، وأنا أروي هذه القصة، أشعر أنني أضع حجارة جديدة في جدار الصمود، الجدار الذي لن ينكسر مهما حاولوا.

  • هذا النص يمثل جزءًا من مذكرات الصحفي سائد حسونة، ويُعد توثيقًا شخصيًا لأحداث الحرب على غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.
زر الذهاب إلى الأعلى