في مثل هذا اليوم، الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، أعلن الشهيد ياسر عرفات من قلب الجزائر، “أرض المليون شهيد”، قيام دولة فلسطين. كانت تلك اللحظة، التي حملت كلماتها الأمل والثبات، محطة فارقة في مسيرة النضال الفلسطيني. إعلان الاستقلال جاء في ظروف صعبة ومؤلمة، لكنه أرسل رسالة واضحة للعالم: الشعب الفلسطيني لا يزال حيًّا، مصممًا على استعادة حقوقه المشروعة، رغم الاحتلال والقمع.
لم يكن اختيار الجزائر عشوائيًا. فمنذ استقلالها، وقفت الجزائر بشعبها وقيادتها إلى جانب فلسطين كقضية مركزية تمثل نضالًا من أجل الحرية والكرامة. الجزائر، التي عاشت تحت نير الاستعمار لسنوات طويلة، فهمت عمق معاناة الفلسطينيين واعتبرت قضيتهم امتدادًا طبيعيًا لكفاحها ضد الاستعمار الفرنسي. لم يكن دعمها لفلسطين مجرد موقف سياسي، بل انعكاسًا عميقًا للقيم الإنسانية والأخلاقية التي تبنتها بعد استقلالها.
إعلان الاستقلال الفلسطيني كان أكثر من مجرد وثيقة؛ لقد كان بداية مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني من أجل الحرية. هذا الإعلان الذي صدر من قلب الجزائر، حاز على اعتراف أكثر من 100 دولة، وأصبح نقطة انطلاق لتعزيز مكانة فلسطين على الساحة الدولية. كما أسهم في رفع تمثيل فلسطين إلى مستوى مراقب دائم في الأمم المتحدة، مما أتاح للفلسطينيين استغلال المنابر الدولية للدفاع عن قضيتهم.
ورغم أهمية هذا الإعلان وما حققه من إنجازات دبلوماسية، فإن الشعب الفلسطيني لم ينعم يومًا بالسلام أو الحرية. الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف عن ممارسة سياساته العدوانية، التي تشمل التهجير القسري، والاستيطان، والقصف المستمر. واليوم، بعد مرور 35 عامًا على إعلان الاستقلال، يواجه الفلسطينيون واقعًا مأساويًا تحت وطأة حرب جديدة على غزة.
واقع الحرب على غزة: استمرار المعاناة وتحديات النضال
تزامنت هذه الذكرى هذا العام مع حرب جديدة شنتها إسرائيل على قطاع غزة، مخلفة دمارًا هائلًا ومعاناة إنسانية غير مسبوقة. الحرب التي بدأت بذريعة القضاء على “التهديد الأمني”، سرعان ما تحولت إلى استهداف للمدنيين والبنية التحتية. القصف العنيف دمّر منازل بأكملها فوق رؤوس ساكنيها، وترك آلاف الأسر مشردة بلا مأوى. المستشفيات في غزة تعاني من نقص حاد في المعدات الطبية، بينما يستغيث الأطباء لإنقاذ أرواح الجرحى وسط انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود.
الخسائر البشرية فادحة، حيث ارتقى المئات من الشهداء، بينهم نساء وأطفال، في مشاهد مروعة تعكس وحشية الاحتلال. ومع كل قذيفة تسقط على غزة، يُضاف فصل جديد من الألم إلى الرواية الفلسطينية المستمرة منذ عقود. ورغم ذلك، فإن الشعب الفلسطيني لا يزال صامدًا، يواصل نضاله بكل الوسائل الممكنة، ليُثبت للعالم أنه لن يركع أمام قوة الاحتلال.
الحرب على غزة ليست مجرد حدث عابر، بل هي انعكاس لاستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني. ورغم مرور 75 عامًا على نكبة فلسطين، و35 عامًا على إعلان استقلالها، لا يزال الفلسطينيون يُمنعون من ممارسة حقوقهم الأساسية، ويُعاملون وكأنهم أرقام بلا حياة.
بين الذكرى والواقع: الحاجة إلى تضامن عالمي
ذكرى إعلان استقلال فلسطين تحمل اليوم أكثر من مجرد رمزية تاريخية؛ إنها دعوة للتأمل والعمل. الحرب على غزة تسلط الضوء على الحاجة الملحة لتحرك عالمي حقيقي يدعم الشعب الفلسطيني. لا يكفي التضامن بالكلمات أو البيانات؛ الشعب الفلسطيني بحاجة إلى خطوات عملية تُنهي الاحتلال وتحقق العدالة.
المجتمع الدولي مطالب بالضغط على إسرائيل لوقف عدوانها ورفع الحصار عن غزة، الذي جعل الحياة في القطاع أشبه بالكابوس. كما أن على الدول التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن تُظهر هذا الالتزام بالفعل، من خلال فرض عقوبات على الاحتلال ومحاسبته على جرائمه المستمرة.
في ظل هذا الواقع المؤلم، يبقى إعلان الاستقلال الذي صدر من الجزائر رمزًا للأمل والإصرار. الجزائر، التي احتضنت هذا الإعلان قبل 35 عامًا، تواصل اليوم دورها كحليف وشريك للفلسطينيين في نضالهم. ومن أرض “المليون شهيد”، نتعلم أن النضال من أجل الحرية لا يتوقف مهما كانت التحديات.
رسالة إلى العالم
الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت الاحتلال والحصار منذ عقود، بحاجة ماسة إلى دعم عالمي حقيقي. القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع إقليمي أو قضية إنسانية عابرة؛ إنها قضية عدالة وحق، تمثل اختبارًا لمدى التزام العالم بالمبادئ التي يتغنى بها.
إعلان استقلال فلسطين كان لحظة أمل وسط الظلام، واليوم، وسط دمار غزة وألم أهلها، يجب أن يبقى هذا الأمل حيًّا. على العالم أن يدرك أن صمود الفلسطينيين ليس فقط دفاعًا عن أرضهم وحقوقهم، بل هو أيضًا دفاع عن القيم الإنسانية العالمية. استمرار الاحتلال يعني فشلًا أخلاقيًا للمجتمع الدولي بأسره.
ختامًا: تحية للجزائر وللشعب الفلسطيني
في ذكرى إعلان استقلال فلسطين، نقف إجلالًا للشهيد ياسر عرفات ولكل من ناضل وضحى من أجل الحرية. وتحية للجزائر، التي كانت ولا تزال نموذجًا للدعم الصادق للقضية الفلسطينية. الشعب الفلسطيني، رغم جراحه ومعاناته، لا يزال متمسكًا بحقه المشروع في الحرية والاستقلال.
هذه الذكرى ليست فقط لتأمل الماضي، بل لإعادة الالتزام بالمستقبل. النضال الفلسطيني مستمر، ودعم القضية الفلسطينية واجب إنساني وأخلاقي لا يمكن التنازل عنه.
سائد حسونة
صحفي فلسطيني، مختص في الإعلام الاجتماعي