ماذا جرى؟

عام مضى.. المطر والحرب كما هما، لكن آمنة لم تعد هنا

كان ذلك اليوم قبل عام، حين اجتمعنا تحت سماء شمال غزة، بين قطرات المطر وأصوات الحرب التي كانت تملأ الأفق. تلك اللحظة كانت بعيدة عن قسوة الواقع، لحظة خاصة صنعتها آمنة، زوجتي، بروحها التي استطاعت أن تتحدى كل ما حولها. وسط كل هذا الدمار والبرد، كانت هي الدفء الذي أحتاجه، والنور الذي يضيء عتمة الحرب.

اليوم، تمر سنة على هذه الصورة، والوجع لا يزال طازجًا كأن اللحظة قد حدثت البارحة. أجدني أبحث عن وجهها في كل مكان، في كل زاوية من زوايا حياتي. أبحث عنها في أصوات الناس، في صور المطر الذي لطالما أحببناه معًا، وفي ضحكات أبنائنا التي تحمل شيئًا من روحها. لكنها، ورغم ذلك، غائبة. غيابها يثقل الروح وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة التي غادرت فيها، تاركة فراغًا لا يمكن لأي شيء أن يملأه.

آمنة لم تكن فقط شريكة حياتي. كانت صديقتي، ملهمتي، وملاذي من أهوال هذه الحرب التي نعيشها. في ليالي الشتاء الباردة، كانت صوتها يكفي ليطرد البرد من قلبي، وفي أيام الحرب المظلمة، كانت ابتسامتها تضيء لي طريقي. ومع ذلك، أخذتها الحرب كما أخذت الكثيرين غيرها، لتتركني أعيش بين الذكريات والألم.

غزة ليست فقط ساحة حرب. إنها أيضًا موطن الحب والإنسانية، رغم كل ما يحيط بنا من دمار. فقدان آمنة هو جزء من قصة أكبر يعيشها آلاف هنا. لكل واحد منا حبيب رحل، حلم تحطم، وفراغ لا يمكن لشيء أن يملأه. لكن غزة، رغم كل هذا، تعلمنا أن نصمد، أن نستمر، وأن نجد معنى للحياة وسط الركام.

سائد حسونه | عام مضى.. المطر والحرب كما هما، لكن آمنة لم تعد هنا

اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر وكأن المطر الذي يتساقط على غزة يحمل رسائل خفية من آمنة. رسائل تخبرني أنها ما زالت هنا، في ذاكرتي، في حنين قلبي، وفي صمودي الذي تعلمته منها. أسمع همساتها تقول: “ابقَ قويًا. كن النور لأبنائنا كما كنتُ لك يومًا.”

آمنة تركت لي إرثًا ليس فقط في الحب، ولكن في القوة. كل ذكرى تحملها تجعلني أشعر بمسؤولية أكبر تجاه أبنائنا، تجاه قصتنا، وتجاه غزة التي ما زالت تحتاج إلى من يحكي حكاياتها. الحرب لم تسرق منا فقط الأحبة، بل أخذت أيضًا أحلامنا. ومع ذلك، نبقى هنا، نحكي، نكتب، ونتشبث بالأمل.

هذا المقال ليس فقط عن حزني الشخصي. إنه رسالة إلى العالم بأن غزة ليست أرقامًا وإحصائيات عن الموت والدمار. إنها حكايات حب وصمود. إنها قصص عن أم مثل آمنة، جعلت من بيتنا عالمًا خاصًا وسط كل هذا الألم. إنها حكاية عن زوجة كانت تعطي للحياة معنى أكبر من مجرد البقاء.

في هذه الذكرى الأولى، أريد أن أقول للعالم: الحروب لا تنتهي بمجرد توقف القصف. الفقد يبقى، والفراغ يستمر، لكن الحب والصمود هما ما يبقياننا على قيد الحياة. ذكراكِ يا آمنة ستظل النور الذي يقودني، وستبقى روحكِ حية في كل ما أفعله من أجل أبنائنا ومن أجل غزة.

هذه ليست مجرد قصة شخصية. إنها شهادة على الحياة في غزة، على ما يعنيه أن تحب في زمن الحرب، وأن تبقى رغم كل شيء.

  • هذا النص يمثل جزءًا من مذكرات الصحفي سائد حسونة، ويُعد توثيقًا شخصيًا لأحداث الحرب على غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.
زر الذهاب إلى الأعلى