رواية حب صحفيين: الاحتلال يجبرهما على الفراق
لم يكن استشهاد 197 صحفيًا في قطاع غزة على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة حادثًا عرضيًا، بل جريمة ممنهجة. يسعى الاحتلال إلى إسكات كل صوت وكل نافذة تُبرز حقيقة ما يجري في قطاع غزة، حيث يخوض حربًا شرسة ضد الكلمة الحرة، مستخدمًا القوة الغاشمة لقمع الحقيقة.
الشهيدة آمنة حميد هي واحدة من هؤلاء الصحفيين الشجعان الذين دفعوا حياتهم ثمناً لنقل حقيقة ما يعانيه شعب غزة. لقد دفعت حياتها ثمناً لكتابة قصص أهلها وعكس معاناتهم وأوجاعهم. فقدت ابنها في قصف منزلها، وتعرضت لإصابات بالغة، وشُوهِه جسدها، وفقدت خمسة من أبنائها الذين أصبحوا أيتامًا، وزُج بزوجها الصحفي سائد حسونة في السجون، وتعرض للتعذيب والنفي.
عندما أسمع من أحد الزملاء أنه كان على اتصال بآمنة حتى وقت قريب، وأنها كانت تجلس على طاولة المقابلة تتحدث عن غزة، يصغر العالم في عيناي. يتوسط زميلي بيني وبين سائد حسونة، فيرسل لي مواد من فلسطين، وأنا بدوري أروي قصة آمنة. امرأة هي ديوان شعر كامل عن الحياة، شاعرة وكاتبة ومناضلة من أجل وطنها، وعاشقة فارقت حبيبها.
عائلة هُجّرت خمسة وعشرين مرة!
ما إن تجاوزت عقارب الساعة منتصف الليل ودخلنا اليوم الخامس من شهر أكتوبر، حتى احتضنت آمنة بين يديها ضحى، مولودتها السادسة التي أضفت فرحة عارمة على الأسرة. وقد زاد فرح هذه المولودة بانتصار المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر، إلا أن فرحة الأسرة لم تدم طويلاً، فسرعان ما عادت آلة الحرب الصهيونية لتفرض واقعها المرير على قطاع غزة، لتنهال القنابل والصواريخ على رؤوس الأبرياء.
لم تكد آلام الولادة تهدأ عن آمنة حتى اضطرّت هي وزوجها لحمل أطفالهم والنزوح بحثًا عن ملجأ آمن. ولكن أين الملاذ الآمن في غزة التي تحولت إلى ساحة حرب لا يرحم فيها أحد؟
منذ ذلك الحين، هُجّرت آمنة وعائلتها خمسة وعشرين مرة، تارةً شرقاً وتارةً جنوباً، ثم غرباً وشمالاً. لم يجدوا مكاناً يستقرون فيه، فقبل أن يصلوا إلى أي مكان، كانت صواريخ العدو قد سبقتهم إليه. وقد تعرض منزلهم للقصف عدة مرات.
مرةً، اختنقت ضحى، طفلتها الرضيعة، بدخان القنابل، وفي مرة أخرى، انهال عليها الأنقاض، فأصيبت بجرح في جبينها. أصيبت آمنة بجرح في ساقها، نزل منها الدم بغزارة، ولكنها لم تهتم، فقد كانت شجاعة وقوية أكثر من أن يسقطها جرح مهما بلغ عمقه. ورغم علمها بأن الاحتلال يستهدفها بسبب كتاباتها، إلا أنها لم تستسلم، بل واصلت كتابة الشعر، ورواية قصص الشهداء، ولم تسكت.
أجبرتهم القنابل والصواريخ، بعد كل هذا التهجير، على اللجوء إلى مستشفى الشفاء، ذلك الملاذ الذي كان يفترض فيه أن يكون آمناً للمرضى والجرحى. ولكن القدر شاء أن يتعرض المستشفى للقصف في تلك الأيام بالذات. كانت آمنة شاهدة عيان على ما جرى في مستشفى الشفاء.
رواية آمنة ليوم قصف الشفاء
لا يزال أثر قصف مستشفى الشفاء ينزف في قلوبنا، كجرحٍ طازجٍ يشتعل كلما لامسته. ففي ذلك اليوم المشؤوم، لم يكن المستشفى ملجأً آمناً للمرضى والجرحى، بل تحول إلى مقبرة جماعية بفعل وحشية الاحتلال. آمنة، التي كانت شاهدة عيان على هذه الجريمة، قد سجلت لنا تفاصيل تلك اللحظات الرهيبة في مذكراتها، والتي تكشف عن مدى وحشية الاحتلال وتقديره القليل للحياة.
«لم تكن ليلة عادية، فقد قرر الاحتلال أن يستهدف آخر ملاذ للنازحين والجرحى، مستشفى الشفاء. فجأة، انقطع صوت صفارات الإنذار، وحلّ الصمت القاتل، ثم سمع دوي إطلاق النار. وأذاع مكبر الصوت: “الشفا محاصرة من كل جانب”.
وضعتنا هذه الكلمات على حافة الهاوية، وتركّتنا نتخبّط في بحر من النار لا تفارق بين البنايات والناس. احتضنت ضحى، بينما ملأت العويل النسائي وأنين الأطفال الأروقة المظلمة. زحفنا على بطوننا، نبحث عن ملجأ من رصاص السماء. تحوّل مستشفى الشفاء إلى ساحة حرب، وكل لحظة كانت أشدّ قسوة من سابقتها. استُهدفت المعدات الطبية والأدوية والكادر الطبي، ففقدنا آخر ملجأ لن في هذا الصراع.»
في خضم تلك الظروف القاسية التي وصفتها آمنة، وفي تلك اللحظات الحاسمة، ماذا كانت تفعل؟ لم تفارقها قلمها ودفترها، فكانت تدوّن كل ما تراه بكل تفصيل، لتخبر العالم بما يحدث لتلك النساء والأطفال الأبرياء. لقد كانت آمنة تواجه صواريخ العدو بقلمها، ذلك السلاح الأشد فتكاً، فإسرائيل تخشى نور معرفتها وعطر الأمل الذي ينبعث من كلماتها.
لم تجنِ إسرائيل من وراء قصفها الوحشي لمستشفى الشفاء سوى الخسارة. ففي صباح اليوم التالي، كتبت آمنة تقول: “لقد غطّ الدمار كل مكان، ولكن ما لفت نظري وسط هذه الخراب هو صور الأمهات اللواتي يكافحن الموت لإنقاذ أطفالهن، والآباء الذين يحاولون بأيديهم العارية إزالة الأنقاض بحثًا عن أحبائهم. إن مستشفى الشفاء، رغم تحوله إلى ركام، قد أصبح رمزًا لمقاومة أهل غزة الذين يبنون حياة جديدة من تحت الأنقاض. فإرادة الحياة أقوى من أي قنبلة أو صاروخ”.
اليوم الذي شرد فيه الاحتلال سائد وآمنة
كان الاحتلال قد هدد سائد حسونة وزوجته آمنة حميد مرارًا وتكرارًا، بل إن القناة 14 الإسرائيلية عرضت صورة آمنة في مستشفى الشفاء مستهدفة إياها. واضطرت آمنة وسائد لحمل أطفالهما والنزوح مرة أخرى من مستشفى الشفاء، لكن الاحتلال لم يتركهم وشأنهم. فاختطف الصهاينة سائد حسونة، وكانت الظروف قاسية للغاية.
كانت آمنة تجوب شوارع مدينتها المدمرة في ظلام دامس، لا تعرف ملامحها، وهي تمسك بأيدي أطفالها بحثًا عن مأوى جديد. غياب سائد زاد من أعبائها، لكن ما كان يؤرقها أكثر هو مصير ذلك الرجل الذي قضت معه عمرها، ورفيق دربها في الكفاح من أجل فلسطين.
تعرض سائد لأبشع أنواع التعذيب، أراد الاحتلال أن يكسر شابًا في الخامسة والثلاثين من عمره، لم يزل صوته يصدح بالمقاومة، وكلماته تشعل في قلوب الناس شمعة أمل بمستقبل بلا احتلال. أرادوا أن يكسروه ليجعله هو وزوجته يتخلّيان عن الكتابة عن فلسطين والمقاومة. لكن هل كان سائد ليستسلم؟ عندما هدده ضباط الاحتلال بقتل عائلته، اضطرب قلبه كأزقة غزة المدمرة، لكنه لم يستسلم.
كانت السنوات القليلة التي قضاها سائد مع آمنة كنزًا عظيمًا. فقد زادت شجاعة آمنة وصلابتها في مواجهة الحرب والفقر ونضالها من أجل تحرير فلسطين من عزيمته. وعندما رأى ضباط الاحتلال أن التعذيب لم يفلح معه، لجأوا إلى عقوبة أشد قسوة: النفي والبعد عن أهله. فذهب سائد إلى رفح وبقيت آمنة وأطفالها في مخيم الشاطئ.
ما الذي تجلبه الحروب للعشاق؟
تترك الحروب آثارها البادية على الجسد، الجوع والجراح والموت، مآسٍ تتكرر في كل حرب، وكأن أحدًا لا يهتم بما يخفيه القلب. قليل من الناس يفكرون في ما تفعله الحروب بالعشاق. فالحرب تفصل بين مئات من ليلى ومجنون، بين مئات من شیرین وفرهاد، وتضيع قصص حبهم وسط أعداد القتلى والجرحى. ولكن ليت أحدهم يحسب عدد القلوب التي مزقتها الحروب، مثل قلب سائد وآمنة.
عادت آمنة إلى بيت أهلها في مخيم الشاطئ، وهي تعلم أن الاحتلال لن يتركها وشأنها، إلا أنها أصرت على الكتابة. كتبت عن الشهداء، ورسمت صورة الحياة تحت وطأة الاحتلال، وحثت الناس على الصبر والثبات، مؤمنة بأن الصبر سيقهر المحتل.
كانت الحياة صعبة عليها بعد غياب سائد، لكنها تحملت كما تحملت كل الصعاب من أجل فلسطين ووطنها. فأصبحت أمًا وأبًا لأطفالها، وكانت تتصل بسائد في كل فرصة، لتسافر معه في خيالها، هربًا من وحشة الفراق.
ما لم يستطع الإسرائيليون أن يروه
“أردد في ذهني قول جدتي: كل يوم جزر وكرنب! مثل شعبي قديم، لكن الإسرائيليين حولوه إلى واقع مرير. فمنذ منتصف أكتوبر، اختفت الخضروات واللحوم من أسواق غزة. حتى في الأحلام لم نرَ فاكهة. وبعد مئة يوم، ظهرت كمية قليلة من البرتقال قطفت من تحت القصف، وبأسعار باهظة.
كان أطفالي لا يتوقفون عن الحديث عن أي طعام يجدونه. قبل أيام، مرّ بائع أمام ملجأنا يبيع الخبز البلدي. فرح الأطفال كثيراً وهرعوا لشرائه. لم يكونوا يحبون الخبز البلدي من قبل، لكن كل طعام أصبح ثميناً بالنسبة لهم’. تتحدث آمنة عن الجوع والعطش اللذين عانوهما في غزة، لدرجة أنهم وجدوا صعوبة في الحركة. وفي ذلك اليوم، بعد كل تلك المعاناة، كانت تنوي طهي البيتزا لأطفالها ببعض المكونات التي تمكنت من العثور عليها، لتسعدهم.”
أطفال يحيطون بأمهم، قلوبهم مشتاقة إلى أن يروا الطعام جاهزاً، وكأن سعادتهم تكمن في ذلك، لكن قلوبهم كانت فارغة بسبب غياب الأب. وبعد دقائق قليلة، انتهى وقت سعادتهم. فقبل أن تنضج البيتزا، استهدف صاروخ إسرائيلي منزلهم. وبعد يومين، عُثر على جسد آمنة، الصحفية الشجاعة المحبة لغزة، ممزقاً تحت الأنقاض. كما عُثر على مهدي، البالغ من العمر أحد عشر عاماً، وقد فصل رأسه عن جسده. أما عليّ، العاشر من عمره، ومحمد، التاسع، وأمير، الخامس، وغنى، الرابعة، وضحى التي لم تتجاوز عامها الأول، فقد أصيبوا جميعاً وأصبحوا يتامى. أم شهيدة وأب في المنفى! ولكن أشد ألمٍ عاناه سائد عندما علم بالخبر.
الرجل الذي حُرم من حضور جنازة زوجته
“كان سائد قد اتصل بآمنة منذ قليل، كانت أحوالهم جميعاً على ما يرام، وكانوا يستعدون لتناول البيتزا على الغداء بعد فترة طويلة من الحرمان. ولكن بعد ساعة واحدة، صدمته صورة لابنه تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يركض نحو الصحفيين، وجهه مليء بالدموع، وهو يصرخ: “لقد قصفوا منزلنا بصاروخ، وأمي لا تزال تحت الأنقاض، أصبحنا الآن وحيدين!”
لم يثق عينيه، فاتصل بآمنة. لكن صوتاً مسجلاً أبلغه بأن المشترك غير متوفر، فانهار العالم على رأسه. آمنة، زوجته وأم أولاده، التي كان يعشقها ويعظمها لتضحياتها، كانت تحت الأنقاض. كان سائد عاجزاً عن فعل أي شيء، محبوساً في سجن المنفى، عاجزاً عن الوصول إلى مخيم الشاطئ، ولو للحظة وداع أخيرة.
كيف يستطيع عاشق أن يتحمل هذه اللحظة المريرة؟ خاصةً وهو محروم من حضور جنازة حبيبته آمنة ودفنها. تقول وسائل الإعلام إن مهدي وآمنة دُفنّا في قبر واحد، ولكنني أقول إن قلب سائد قد دُفن معهما. ما أشدّ عذابه! كان من حقه أن يرى آمنة مرة أخيرة، وأن يقبل رأس مهدي، وأن يحتضن أطفاله ويسكن آلامهم.
بعد أشهر من الفراق، تمكن الأطفال أخيراً من الالتقاء بوالدهم بفضل وساطة اليونيسف. ورغم تعرض سيارات اليونيسف للقصف مراراً وتكراراً، إلا أن الأطفال تمكنوا من اختراق حصار الوحدة والوصول إلى أبيهم سالمين. كان سائد يحلم كثيراً بهذه اللحظة، بل كان يتخيل مع آمنة أنه سياتي يوم يجتمعون فيه جميعاً، وينتهي هذا الفراق الأليم. لكن إسرائيل، التي لا ترحم الأرواح، كيف لها أن ترحم القلوب والأحلام؟.
لم تغير شهادة آمنة والفراق المؤلم الذي فرضته عليهم إسرائيل شيئاً، بل زاد سائد إصراراً وعزيمة على مواصلة الطريق الذي رسمته آمنة. لقد ورثت عنه وعن أطفاله إرثاً من المقاومة والشجاعة. أصبح سائد الآن صوت فلسطين بدلاً من آمنة وبدلاً من نفسه، صوتاً لن يخرس حتى لو استهدف الصهاينة منزله بصواريخهم الدقيقة.
- هذا النص يمثل جزءًا من مذكرات الصحفي سائد حسونة، ويُعد توثيقًا شخصيًا لأحداث الحرب على غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.