ماذا جرى؟

سبعة أيام من الحياة، وعمر من المقاومة: حكاية غزة تحت النار

انكسرت النوافذ و اهتزت أعمدة البناء. لم يكن هناك زلزال، بل سقط صاروخان من الطيران الإسرائيلي في منتصف باحة المنزل. تغطت وجوه الأطفال بالزجاج. لم تكن ابنتي، ضحى، التي تبلغ من العمر سبعة أيام، تستطيع التنفس. غادرنا المنزل في تلك الليلة، أي في 12 أكتوبر.

أنا وزوجتي الشهيدة آمنة مع ستة أطفال، وصلنا إلى حي الشجاعية بعد عدة أيام من التشريد وعشرات الساعات سيراً على الأقدام، لكن مع دوي الانفجارات، انهار المبنى فوق رأسي ورأس ابني. سحبنا الناس للخارج. مشينا نحو مستشفى المعمداني. بينما كنا في الطريق، سمعنا “بوووم”! سوي المستشفى بالأرض. سحبت آمنة الزجاج من أجساد الأطفال.

كان قلبي يحترق من أجل غزة المظلومة والوحيدة. انا كنت صحفيًا يجب أن يظهر هذه الإبادة الجماعية. صعدت إلى مكان مرتفع. كانت شبكة الإنترنت ضعيفة، وكانت الأخبار تظهر بصعوبة.

وفي لبنان وقطر وأنقرة وكوالالمبور، تجمع الناس أمام السفارة الأمريكية أو الإسرائيلية. كما نظم الأردنيون مظاهرات نحو الحدود الإسرائيلية. وعندما تصفحت الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، أرسلت تحية للشباب الأحرار الذين بقوا بأيديهم الملونة بالدم في مجلس الشيوخ الأمريكي، جعلوا صوتنا مسموعًا وقدموا اتهامات لاستخدام القنابل الأمريكية. سلام للفنانين الأحرار. سلام لآلاف صانعي الأفلام والموسيقيين ونجوم الكاريكاتير مثل “كمال الشريف” الذين استمروا في مسيرة “ناحي العلي.” رسامو الكاريكاتير الذين أثبتوا أن ريشة الحق أقوى من صواريخ الصهاينة.

بعد هدنة استمرت تسعة أيام، ذهبت إلى غرب غزة المنطقة الآمنة حسب ادعاء الجيش، لكنني تعرضت لمفاجأة مرة أخرى. حاصرتنا الدبابات. بعد خمسة أيام، لم يكن لدينا ماء، ولا طعام، ولا حليب أطفال! كل من يخرج من المنزل كان يصبح هدفًا للقناص الإسرائيلي.

اقتحم الإسرائيليون الشقة. تم سحب رجالنا عراة وأقدامهم حافية على أرض باردة مليئة بالشظايا. كانوا يضربونني باستمرار بمؤخرة السلاح. كانوا يقولون: “سنقتلك إذا كنت سعيدًا بسبب 7 أكتوبر”!

ربما سقطت منازلنا على الأرض في الحرب الضروس؛ لكن راية فلسطين المظلومة ترفرفت بعد سنوات. فوق جدران الكنائس والمساجد. فوق أيادي الناس في مسيرات “البوسنة والهرسك” والنجف وكربلاء. الراية ليست مجرد قماش ثلاثي الألوان. الراية هي قضية. قضية الثبات والحرية. أرسل تحياتي لكل الأيادي التي اعتقلت بسبب رفع راية فلسطين، لكنهم لم يتخلوا عنها.

مشروع “الأرض المحروقة” ليس لغزة فقط. إن المستعمرين يعتقلون أحرار العالم، لكن صوت الحرية لن يكبت. سلام لكل الأحرار في العالم الذين تم اعتقالهم. سلام للعلماء والأساتذة في الجامعات الأمريكية والكولومبية الذين تم فصلهم من الجامعة وزجوا بهم في السجن. سلام للمدافعين عن فلسطين في إيطاليا وألمانيا وأمريكا الذين وقفوا في وجه هراوات الشرطة. سلام للمرأة التي رفعت العلم أثناء الطواف ووقفت أمام رجال الشرطة السعوديين. جميعهم وقفوا لكي نقف في غزة أمام إسرائيل.

أنا أحب 7 أكتوبر، بسبب الدم الذي ضخ في شرايين فلسطين. بسبب الأعلام التي رفرفت وفلسطين التي عادت إلى الحياة. ولكن إذا أدرك الإسرائيليون هذا، كانوا سيقتلونني. بعد أيام من التعذيب وأكثر من ثماني ساعات من الاستجواب في الحمام، طردوني خارجًا بدون حذاء أو أي ملابس.

لم أكن مطلعا على أخبار زوجتي وأطفالي سوى أنهم ذهبوا إلى مستشفى الشفاء لمعالجة طفلي الصغير.

في يوم صعب بعد محادثة هاتفية طويلة مع زوجتي آمنة، كانت قد استشعرت الخطر باقتراب الطائرات الحربية من فوق المنزل التي كانت فيه والأطفال، جاءني اتصال صادم بعد إغلاق المكالمة بشعر دقائق، أخبروني فيه أن زوجتي وابني الكبير مهدي استشهدا، وأصيب بقية أطفالي. صُدمت. لم أكن أعرف ماذا أقول! بعد مضي عدة أيام، شاهدت مقطع فيديو و ألقيت تحياتي إلى “هنية” الذي عندما سمع خبر استشهاد ثلاثة من أبنائه وأحفاده، لم يقل إلا جملة واحدة: “الحمد لله.”

سلام على دم الأطفال الذي ذهب فداءً للقدس الشريف. سلام على 201 من زملائي الصحفيين الذين استشهدوا. سلام على شهداء حماس وقادتها: محمد ضيف، هنية، يحيى السنوار. سلام على داعم حماس، الشهيد السيد حسن نصر الله ودبلوماسي المقاومة الشهيد حسين أمير عبد اللهيان. سلام على جميع الذين أيدوا الحق بدمائهم. سلام على المحتجين في سان فرانسيسكو، واشنطن دي سي، كشمير، مومباي، برشلونة ومدريد وشيكاغو ولندن وسيول وسلام على آلاف من الأحرار الآخرين. الموت لمشجعي الكيان القاتل للأطفال في الأمم المتحدة. إن صوت أمم العالم خارج حيطان منظمة الأمم المتحدة. سلام على الجندي الأمريكي الذي أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية وهو في الزي العسكري الأمريكي.

أنا آتي برفقة أطفالي إلى ملعب كرة القدم. الحياة جارية هنا. أبعث تحياتي من هنا إلى رياض محرز، يزن النعيمات وعلي آذربيرا ومحمد أبو تريكة، لاعب كرة القدم المصري الذي تم فصله عن ساحات المباريات لسنوات عديدة بسبب دعمه لفلسطين.

كم كانت رؤية طفل أمريكي يهتف من أجل فلسطين تذكّرني بابني الشهيد مهدي الذي كان يعشق كرة القدم أيضًا. سلام على حصّالات أطفال البحرين التي انكسرت كهدية لغزة. سلام على مقاطعة البطاطس الإسرائيلية في أيرلندا ومقاطعة المشروبات ذات العلامة التجارية الصهيونية في الدول الإسلامية.

أحيانًا أفكر، نحن الذين لا نملك السلاح؛ إلى متى يمكننا المقاومة أمام سلاح الاحتلال الحديدي؟ أنظر مرة أخرى إلى هاتفي. تحية لشموخ اليمانيين، الذين يتصرفون على عكس الحكام العرب، يطلقون صواريخهم بدقة حيث حولت القبة الحديدية إلى بيت العنكبوت. هم الذين أوقفوا سفينة الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر. سلام على الطائرات المسيرة في لبنان، التي ظهرت على مائدة عشاء الضباط وفي غرفة نوم نتنياهو. سلام على الطائرات المسيرة في العراق، وسلام على محور المقاومة في إيران وصواريخهم الدقيقة التي تُشفي غلة صدورنا.

وسلام عليكم؛ أنتم الذين تخفق قلوبكم من أجل فلسطين. أنتم الذين تعلمون أننا لسنا مجرد أرقام، وأن مظلوميتنا لن تتكرر بالنسبة لكم. سلام على القدس. سنبقى صامدين حتى يحين يوم ننطلق فيه من غزة إليكم لأداء صلاة الجماعة.

إخوتي الأعزاء يقومون الآن بتسجيل هذه الكلمات بأصواتهم نيابة عني، في تجسيد حي ومؤثر لمعنى الوحدة الحقيقية. إنها رسالة تعبر عن جوهر ارتباطنا، بأننا جميعاً كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. هذه الكلمات ليست مجرد عبارات، بل تعبير عن شعور عميق بأن أصواتنا تكمّل بعضها البعض، وأن نبض قلوبنا يتوحد في مواجهة التحديات والصعاب. صوتهم هو صوتي، وصوتي هو صوتهم، ليبقى هذا الصوت شاهداً على وحدتنا وقوتنا التي لا تنكسر.

– لمشاهدة الفيلم (اضغط هنا)

  • هذا النص كُتب للمشاركة في فيلم لمهرجان عمار السينمائي الشعبي، الذي يُعقد في طهران من 26 ديسمبر 2024 إلى 2 يناير 2025، لكن حرب الإبادة وإغلاق المعابر منعت حضوري. يُعد مهرجان عمار، الذي انطلق عام 1432 هـ، منصة لنشر السينما الإسلامية الملتزمة والمستقلة. تمحور المهرجان هذا العام حول المقاومة والقضية الفلسطينية، ودوّنت هذه الكلمة ضمن مذكراتي كصحفي خلال الحرب.
زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content