ماذا جرى؟

أسئلة غنى وأمير: حين ينطق الصغار بوجع الكبار

سنعود، نعم، لن تقتلعنا الحرب من أرضنا، ولن نمضي بعيدًا عن هذا الوطن الذي نحمله في قلوبنا مهما أثقلتنا الجراح. لكن العودة ليست مجرد وعدٍ نردده أو خطوةٍ نسيرها. إنها مواجهة حقيقية مع أوجاعنا، مع التفاصيل الصغيرة التي ترسم ملامح فراقنا.

غنى وأمير، الصغيران اللذان أصبحا وجهين لكل ما فقدناه. يجلسان هناك، ينظران إلينا بعيون تحمل دهشة الطفولة وألمًا لم يكن لهما أن يعرفاه بهذا العمر. في كل يوم، يسألان: “متى ستعود آمنة؟!”، “متى سنلتقي بمهدي؟!”، أسئلتهما ليست كلمات عابرة؛ إنها صرخات ناعمة تنخر في أعماق القلب، توقظ جروحًا ظننا أنها هدأت. كيف يمكننا أن نشرح لهما أن آمنة ومهدي ليسا في رحلة قصيرة، بل في غياب لا نعرف إن كان له عودة؟

في كل مرة يحاولان البحث عن إجابة، نغرق أكثر في صمتنا. تلك الأسئلة ليست مجرد كلمات، إنها انعكاس لفراغ هائل، فراغ ابتلع الأحلام الصغيرة والأوقات التي كنا نظن أنها أبسط حقوقنا. كيف يمكن أن نشرح لهما أن أمنة التي كانت تملأ البيت ضحكًا ومهدي الذي كان يركض في أرجاء المنزل لن يعودا الآن؟ كيف يمكن أن نواجه هذا الغياب الذي يأكلنا بصمت، بينما العالم حولنا يتجاهل صرخاتنا المكتومة؟

العودة إلى الوطن، إلى البيت، هي وعد نحمله، لكنها ليست سهلة كما نظن. إنها ليست فقط الوقوف على أنقاض مكان كان يومًا مليئًا بالحياة، بل مواجهة مباشرة مع حقيقة ما خسرناه. كل زاوية، كل ركن، كل جدار يحكي قصصًا لا تنسى. رائحة أمنة في المطبخ، صوت مهدي وهو يلعب في الغرفة، كلها تفاصيل باتت أشباحًا تتبعنا أينما ذهبنا. الركام الذي تركه القصف لم يكن مجرد حجارة مهدمة، بل كان شاهدًا على حياة سرقت من بين أيدينا.

وفي غزة، الحرب لا تأخذ فقط الأرواح. إنها تمحو معاني الحياة كما نعرفها. تسلبك الحق في الإجابات، وفي العيش كما ينبغي. لكنها، وفي تناقض غريب، تعيد صياغة معاني أخرى، مثل الحب والصمود. نحن لا نحارب فقط من أجل البقاء، بل من أجل الحفاظ على ما تبقى من ذاكرتنا، من أرواحنا التي تصر على ألا تنطفئ.

في كل ليلة، ونحن نحاول الإجابة على أسئلة غنى وأمير، ندرك أن الأهم ليس فقط أن نعدهما بالعودة. الأهم أن نعلمهما أن الحب الذي نحمله في قلوبنا لأمنة ومهدي، للوطن، للأمل، هو الذي سيعيدنا يومًا ما، مهما طال الزمن، إلى حياة تستحق أن تُعاش.

 

  • هذا النص يمثل جزءًا من مذكرات الصحفي سائد حسونة، ويُعد توثيقًا شخصيًا لأحداث الحرب على غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.

زر الذهاب إلى الأعلى
Skip to content