
في الحروب، لا تُكتب كل القصص بالحبر. بعضها يُكتب بالدخان، وبعضها الآخر… يُكتب بالنار.
منذ أيام فقط، التهمت النيران زميلي وصديقي العزيز أحمد روحي منصور، الصحفي الذي لم يكن يبحث عن مجد، بل كان يلاحق الحقيقة كما يلاحقها الضوء في عتمة النفق. احترق أحمد وهو في خيمته الصحفية قرب مستشفى ناصر في خان يونس. احترق جسدًا، وبقي صوته يصرخ:
“لا تتركوا الحقيقة تحترق!”
هذه ليست قصة مهنية عابرة، هذه شهادة صديق عاش معه تفاصيل الخطر، والضحكة، والرسالة.
وجه في النار… ووجه في الذاكرة
حين رأيت صورة أحمد محاطًا باللهب، لم أتمالك نفسي. لم تكن فقط صورة شهيد، بل صورة الحقيقة وهي تُحرق أمام أعين العالم. أحمد لم يُقتل في موقع اشتباك، بل في خيمة، مكان يُفترض أن يكون آمنًا. لكن الاحتلال، كما نعرفه، لا يؤمن بشيء اسمه الأمان… لا للصحفي، ولا للطفل، ولا للحقيقة.
الصورة كانت كفيلة بإسكات كل من كان يقول: “الإعلام مبالغ”. لا مجال للمبالغة حين يكون الجسد هو الدليل.
من هو أحمد؟
أحمد روحي منصور، شاب في منتصف الثلاثينات، من جيلي، من الذين كبروا معنا في بلاط الصحافة وتحت قصف الواقع. كان محررًا صحفيًا متميزًا، لا يكتب إلا بعد أن يُشبع الفكرة بحثًا، ولا ينشر إلا ما يرضي ضميره أولاً.
في كل مرة كنت أتلقى منه دعوة للمشاركة في تقرير أو تحقيق، كان يسبقها سؤال حريص:
“شو رأيك نحكي في الجانب الأمني والتقني؟ العالم لازم يفهم الحرب الرقمية كمان.”
كان يؤمن أن معركة الوعي لا تقل أهمية عن معركة الميدان. كنت أقدّر ذلك فيه جدًا، ليس لأنه يذكرني، بل لأنه يعرف كيف يُحسن استخدام الأدوات الصحفية لخدمة القضية.
ضحكة وسط الرماد
ذات مرة، كنا نغطي قصفًا في شارع مزدحم، وأحمد ينظر إلي مبتسمًا ويقول:
“أنت بتشتغل سايبر، وأنا بأشتغل فحم!”
ضحكنا وقتها… ضحكة مرة، ضحكة أهل غزة الذين يسخرون من مصيبتهم كي لا ينكسروا.
كان يقصد أنني أعمل في مجال الأمن الرقمي، خلف الشاشات، أما هو فوجهه في الميدان، وسط الدخان والركام. لم يكن يعلم – ولم أكن أعلم – أن نكتته السوداء ستتحول إلى واقعٍ أليم… وأن النار التي تحدث عنها، ستكون ختام قصته على هذه الأرض.
لم يغادر الخيمة
أحمد كان يعلم أنه مستهدف، يعلم أن الطائرات تراقب، وأن الاحتلال لا يفرق بين حامل الكاميرا وحامل البندقية. ومع ذلك، لم يغادر الخيمة، ولم يهرب من الخطر. ظل يكتب، وينقل، ويصور… حتى اشتعل الجسد ولم تشتعل الرسالة.
لم تكن خيمته فقط مكان عمل، كانت غرفة أخبار متنقلة، ملجأ للصحفيين، ومحرابًا للكلمة الصادقة. وفي النهاية، كانت محرقةً… لا للإنسان فقط، بل للضمير العالمي الصامت.
في النهاية
أكتب هذه الكلمات ولا زلت أبحث في داخلي عن صوت أحمد، عن نبرة الحماسة في عينيه، عن حرصه على كل فاصلة في التقرير، عن دعاباته، عن احتراقه البطيء داخل ضميرنا الذي لم يعد يحتمل مزيدًا من الصور الصامتة.
أحمد استُشهد، لكن الحقيقة لم تمت.
الجسد احترق، لكن الأثر لم يُمحى.
الخيمة تفحّمت، لكن الرسالة بقيت.
الحرب تكتبنا كما نكتبها
هذه ليست المرة الأولى التي أفقد فيها زميلاً في هذه الحرب… لكنها من المرات النادرة التي أحسست فيها أنني أُحرق من الداخل.
أكتب هذه السطور وأنا أسمع صوت أحمد يردد في أذني: “كمل، لا تسكت!”
وربما هذه المرة، لن أضع نقطة في نهاية المقال، لأن الحكاية مستمرة، ولأن الحقيقة لا تنتهي بغياب من حملها
إلى كل زملائي في الميدان، وإلى كل من يوثقون النار بالصورة والكلمة:
ربما يُحرق الخيم، وربما تُكسر الكاميرا، لكن لا أحد يستطيع إحراق الذاكرة…
ولا أحد يقدر على إطفاء قلم كُتب بالحقيقة.
- هذا النص يمثل جزءًا من مذكرات الصحفي سائد حسونة، ويُعد توثيقًا شخصيًا لأحداث الحرب على غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.