
مقدمة: السياق السياسي والإعلامي بعد 7 أكتوبر 2023
في 7 أكتوبر 2023، اندلعت أحداث معركة “طوفان الأقصى“، إثر عملية عسكرية نفذتها المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة، لترد دولة الاحتلال بشنّ عدوان شامل على قطاع غزة. هذا العدوان الوحشي خلّف آلاف الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني، حيث استشهد أكثر من 50 ألفًا حتى تاريخ إعداد هذه الدراسة، نتيجة القصف الإسرائيلي المكثف والاجتياح البري. هذه الأرقام، بكل ما تحمله من وجع ودلالات، تمثل في المزاج الفلسطيني مجازًا أخلاقيًا حول اختلال موازين القوة والعدالة في التغطية والرقابة الرقمية.
تزامن هذا التصعيد العسكري مع معركة محتدمة على الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد تدفق المحتوى المرتبط بالحرب وانتهاكات حقوق الإنسان بشكل كثيف عبر المنصات الرقمية، خاصة من قبل الفلسطينيين وأنصار قضيتهم الذين سعوا إلى توثيق الأحداث وإيصال صوتهم إلى العالم. في المقابل، واجه هذا المحتوى موجة من القيود والرقابة الرقمية غير المسبوقة، خصوصًا على منصات شركة ميتا (فيسبوك وإنستغرام). وأصبحت اتهامات كبح الأصوات الفلسطينية ظاهرة متكررة منذ اندلاع الحرب، مما أثار تساؤلات جدية حول دور الشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي في إدارة المحتوى أثناء الأزمات ومدى احترامها لحرية التعبير وحقوق الإنسان في سياق سياسي مشحون.
(واشنطن العاصمة – 8 نوفمبر 2023 – التُقطت هذه الصورة خلال مظاهرة صامتة نُظّمت على درج مبنى الكابيتول في واشنطن، للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة وتحرك إنساني عاجل. حمل النشطاء دمى مكفنة بأسماء شهداء فلسطينيين، وكمّموا أفواههم بلاصق كُتب عليه “CENSORED”، في إشارة للتعتيم الإعلامي. الصورة بعدسة مصطفى بسيم – وكالة الأناضول عبر Getty Images).
في هذه الدراسة التي أعدها الباحث سائد حسونة المختص في وسائل التواصل الاجتماعي، يتم تناول الدور الذي لعبته شركة “ميتا” في الرقابة على المحتوى الفلسطيني منذ 7 أكتوبر 2023، وذلك من خلال تحليل متكامل للجوانب التقنية، والإعلامية، والقانونية. كما تتضمن الدراسة مقارنة بسياسات منصات تواصل اجتماعي أخرى، إلى جانب استعراض إحصائيات موثقة حول حجم الرقابة الرقمية، وتُختتم بجملة من التوصيات الموجهة للصحفيين والباحثين والنشطاء الحقوقيين.
(احتجاجات أمام مقر شركة ميتا (ولاية كاليفورنيا، الولايات المتحدة) في 12 ديسمبر 2023 تندّد بإزالة المحتوى المؤيد لفلسطين، Getty Images)
أُعدّت هذه الدراسة من قبل المختص في وسائل التواصل الاجتماعي سائد حسونة، وتتناول تحليلًا شاملًا لدور شركة ميتا في قمع المحتوى الفلسطيني بعد 7 أكتوبر 2023، من النواحي التقنية والإعلامية والقانونية، مع عرض موثق للبيانات، والمقارنة مع سياسات منصات أخرى.
المنهج التحليلي للدراسة
منهجية جمع المعلومات
اعتمدت هذه الدراسة على منهج تحليل المضمون الرقمي (Digital Content Analysis) الذي يركّز على تفكيك سياسات الرقابة الرقمية التي تنفذها شركة “ميتا” تجاه المحتوى الفلسطيني منذ 7 أكتوبر 2023، مع تتبّع نماذج من المنشورات المحذوفة والمحتوى المقيّد وتحليلها في ضوء:
- الإحصائيات الرسمية والتقارير الحقوقية الصادرة عن جهات مثل:
- هيومن رايتس ووتش
- منظمة العفو الدولية
- مركز “حملة” و”صدى سوشال“
- تقارير ميتا نفسها ضمن مركز الشفافية
- تحليل مقارن بين آليات الرقابة التي تنفذها ميتا، وسياسات منصات أخرى مثل تويتر (X)، يوتيوب، وتيك توك، لمعرفة التفاوت في التطبيق والانحياز الخوارزمي.
- منهج دراسة الحالة (Case Study) لبعض الحسابات التي تعرضت للتقييد، مثل حسابات صحفيين فلسطينيين معروفين، ما يعزز التحليل بالأمثلة الواقعية.
- الإطار القانوني الدولي، خصوصًا المعايير المتعلقة بحرية التعبير، وحق الوصول إلى المعلومات، ومبدأ الحياد التكنولوجي في إدارة المنصات.، وتتناول تحليلًا شاملًا لدور شركة ميتا في قمع المحتوى الفلسطيني بعد 7 أكتوبر 2023، من النواحي التقنية والإعلامية والقانونية، مع عرض موثق للبيانات، والمقارنة مع سياسات منصات أخرى.
التحليل التقني: آليات تعامل ميتا مع المحتوى الفلسطيني
اعتمدت شركة ميتا نهجًا تقنيًا صارمًا في مراقبة وحذف المحتوى الفلسطيني خلال وبعد أحداث 7 أكتوبر. تقوم سياسات فيسبوك وإنستغرام على معايير مجتمع تشمل حظر دعم “المنظمات والأفراد الخطرين”، والتي تصنّف بموجبها حماس كمنظمة إرهابية، مما يعني أن أي منشور يُشتبه بإشادته بحماس أو تبريره لأفعالها يكون عرضة للإزالة الفورية. عمليًا، فعّلت ميتا خوارزميات ذكاء اصطناعي لكشف هذا النوع من المحتوى بصرامة غير معهودة، حتى أنها خفّضت عتبة الكشف الآلي عن المحتوى المخالف في منطقة الشرق الأوسط – وخاصة فلسطين – إلى مستوى متدنٍ جدًا. ووفقًا لوول ستريت جورنال، قلّصت إنستغرام نسبة اليقين المطلوبة لكي تقوم خوارزميات الشركة بإخفاء التعليقات “المخالفة” من 80% إلى 40% للمحتوى القادم من الشرق الأوسط، بل إلى 25% فقط للمحتوى من فلسطين. هذا التخفيض الحاد يعني أن أي منشور أو تعليق يُشتبه بنسبة ضئيلة أنه ينتهك القواعد يتم حجبه أو تقليل انتشاره تلقائيًا، الأمر الذي رفع كثيرًا من معدل الرقابة على المحتوى الفلسطيني.
علاوة على ذلك، استجابت ميتا بشكل شبه مطلق لطلبات الحكومة الإسرائيلية بإزالة المحتوى. فقد كشف تحقيق صحفي استقصائي – بالاعتماد على بيانات داخلية مسرّبة من ميتا – أن الشركة امتثلت لـ 94% من طلبات الإزالة التي قدمتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023. وتركّز هذه الطلبات الحكومية في مجملها على تصنيف المحتوى ضمن فئتي “الإرهاب” أو “العنف والتحريض”. ونتيجة لذلك، قامت ميتا بإزالة أكثر من 90 ألف منشور استجابةً لتلك الطلبات الإسرائيلية، مع سرعة معالجة قياسية حيث تم حذف المنشور خلال 30 ثانية في المتوسط من وصول البلاغ الحكومي. ولم يقتصر الأمر على البلاغات اليدوية؛ بل إن ميتا وسّعت أيضًا نطاق الإزالات الآلية بشكل كبير بعد 7 أكتوبر، ما أدى إلى اتخاذ إجراءات (حذف أو حظر أو إخفاء) بحق ما يقدّر بـ 38.8 مليون منشور إضافي على فيسبوك وإنستغرام منذ أواخر 2023. (مصطلح “اتخاذ إجراء” بحسب تعريفات فيسبوك يشمل إزالة المنشور أو حظره أو تقليل انتشاره). هذه الأرقام الضخمة تشير إلى ما وصفه باحثون بأنه “أكبر حملة رقابة جماعية في التاريخ الحديث” نفذتها الشركة على المحتوى المتعلق بفلسطين.
اللافت أن خوارزميات ميتا تتعلم من هذه الإزالات وتعزز أنماطها الرقابية مستقبلًا. فبحسب المسربين، حتى البلاغات الإسرائيلية التي عولجت آليًا دون مراجعة بشرية تم إدخالها كبيانات لتدريب نظم الذكاء الاصطناعي لدى ميتا، ما يعني أن المحتوى المنتقد لإسرائيل أو المتضامن مع الفلسطينيين سيُصنَّف تلقائيًا كمخالف بناءً على سوابق البلاغات الحكومية. هذا يخلق انحيازًا خوارزميًا متزايدًا ضد المحتوى الفلسطيني، حيث تتشدد الآلة أكثر فأكثر مع كل دورة تدريب. ورصدت منظمات حقوقية بالفعل حالات ”فرط في الإنفاذ” ضد المحتوى العربي مقارنة بغيره؛ إذ أظهرت وثائق مسرّبة عام 2020 أن خوارزميات ميتا لكشف محتوى الإرهاب أزالت بالخطأ محتوى عربيًا غير عنيف بنسبة 77% من الحالات. ومع الاعتماد المتزايد على هذه الأدوات الآلية غير الدقيقة، يصبح هامش الخطأ جسيمًا بحق المستخدمين العرب. وقد أقرت ميتا نفسها في أكتوبر 2023 بوجود خلل تقني ذو دلالة رمزية: حيث أدى خطأ في أداة الترجمة التلقائية على إنستغرام إلى إدراج كلمة “إرهابيين” في ترجمات السيرة الذاتية لبعض المستخدمين الفلسطينيين – عند اجتماع عبارة “الحمد لله” مع كلمة “فلسطيني” وEmoji العلم الفلسطيني – لتظهر الترجمة الإنجليزية: “الحمد لله، الفلسطينيون الإرهابيون يحاربون من أجل حريتهم”. ورغم اعتذار الشركة وادعائها أنه خطأ برمجي، رأى كثيرون في الحادثة انعكاسًا للانحياز الرقمي الكامن ضد المحتوى الفلسطيني.
إلى جانب الإزالة المباشرة، استخدمت ميتا أساليب خفية مثل ”حجب الظل” (Shadow Banning)، حيث يتم تقليص وصول المنشورات أو إخفاؤها عن شريحة واسعة من الجمهور دون إشعار المستخدم. وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش ستة أنماط رئيسية مما سمته ”رقابة مجحفة” تمارسها ميتا، شملت حذف المنشورات والقصص والتعليقات، وتعطيل الحسابات وتقييد خصائصها، بالإضافة إلى تقنيات تقليل الانتشار (التي يدخل ضمنها الحجب في الظل). وبذلك يتضح أن المعالجة التقنية لميتا بعد 7 أكتوبر مزجت بين خوارزميات صارمة مدرَّبة على التصنيف المتحيز واستجابة شبه آلية لضغوط حكومية، مما كوَّن منظومة رقابية إلكترونية عالية الكفاءة ولكن منخفضة العدالة تجاه المحتوى الفلسطيني.
(صورة تعبيرية تُجسّد الرقابة الرقمية المفروضة على المحتوى. لا تعود لمشهد واقعي وإنما تصميم رمزي)
التحليل الإعلامي: طبيعة المحتوى الفلسطيني المستهدف
شهدت منصات ميتا خلال الحرب على غزة استهدافًا واسع النطاق لمحتوى فلسطيني وإعلامي مشروع تحت ذرائع مختلفة. فعلى صعيد نوعية المواد المحذوفة، تشير الحالات الموثقة إلى أن الغالبية العظمى منها كانت محتويات سلمية أو معلوماتية داعمة لفلسطين ولا تنطوي على مخالفة حقيقية. ففي تحقيق هيومن رايتس ووتش الذي شمل أكثر من 1050 حالة رقابة رقمية في أكتوبر ونوفمبر 2023، تبين أن 1049 حالة منها كانت لمحتوى سلمي مؤيد لفلسطين تم حذفه أو تقليص انتشاره دون وجه حق، مقابل حالة واحدة فقط لمحتوى داعم لإسرائيل. هذا المحتوى المستهدف تنوع بين منشورات نصية تحمل رسائل تضامن أو رأيًا سياسيًا، وصور وفيديوهات توثق أحداثًا على الأرض، وتعليقات تفاعلية على أخبار الصراع.
من الأمثلة البارزة، حظر مجرد استخدام رمز العلم الفلسطيني في بعض التعليقات، حيث أبلغ مستخدمون أن تعليقهم المكوّن من سلسلة رموز علم فلسطين تم وسمه بأنه “قد يكون مؤذيًا للآخرين”. وفي حالات أخرى، أخفت ميتا العلم الفلسطيني من الخانات التعليقية أو أزالت مشاركات تضمّه بدعوى أنه يندرج تحت خطاب يستهدف الآخرين أو يحض على الكراهية. ورغم أن العلم الفلسطيني سابق تاريخيًا لوجود حركة حماس (التي لديها راية مختلفة خاصة بها)، بررت الشركة هذا الإجراء بالاستناد إلى سياسة حظر مدح المنظمات الإرهابية وقاعدة منع “الإشادة أو الاحتفاء أو السخرية من موت أي شخص”، معتبرة أن بعض السياقات التي يُستخدم فيها العلم قد تفهم كمخالفة. هذا التبرير أثار انتقادات واسعة، خاصة وأن رموزًا إسرائيلية بما فيها العلم الإسرائيلي لم تتعرض لمعاملة مماثلة على ما يبدو.
كذلك، أصبح مجرد ذكر كلمة “حماس” سببًا للحذف بغض النظر عن السياق. توثق هيومن رايتس ووتش مئات الحالات التي أدت فيها الإشارة المحايدة أو الخبرية لحماس على فيسبوك وإنستغرام إلى تفعيل خوارزمية مكافحة الإرهاب وإزالة المنشور فورًا، يليها فرض قيود على الحساب الناشر. وهذا بالرغم من أن سياسات ميتا رسميًا تتيح “النقاش أو الإبلاغ الإخباري أو حتى الانتقاد المحايد” للكيانات المصنفة إرهابية، لكنها تضيف أيضًا أنه “إذا كان قصد المستخدم غامضًا أو غير واضح، فنحن ننحاز إلى جانب الإزالة”. وفقًا للرصد الميداني، طبّقت ميتا هذا الافتراض الأكثر تشددًا بشكل تلقائي تقريبًا بحق أي منشور يتضمن اسم “حماس”، حتى لو جاء ضمن تغطية إخبارية أو إدانة للعنف.
(نشطاء وصحفيون فلسطينيون يرفعون لافتات تندّد بما يعتبرونه رقابة من فيسبوك على المحتوى المؤيد لفلسطين، وذلك في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة. الصورة بعدسة: حازم بدر / وكالة فرانس برس AFP)
إلى جانب المحتوى النصي والرمزي، طالت الرقابة أيضًا حسابات إعلاميين وناشطين بارزين من الفلسطينيين أو المناصرين للقضية. فبعد 7 أكتوبر، تم تعليق أو تعطيل العديد من الحسابات الفلسطينية المعروفة على إنستغرام وفيسبوك. على سبيل المثال، الصحفي الفلسطيني أحمد شهاب الدين (الذي يتابعه نحو مليون شخص) ذكر أنه فقد إمكانية الوصول إلى حسابه خمس مرات منذ اندلاع الحرب حتى منتصف نوفمبر. ولم تُعرِّف الشركة بشكل واضح سبب هذه الإجراءات، إذ لم يستطع الصحفي حتى الاطلاع على سجل الانتهاكات المزعومة في حسابه، بينما تلقى مستخدمون يحاولون الإشارة إليه رسالة تفيد أن حسابه ينشر معلومات كاذبة أو يخالف المعايير. وفي حالات أخرى، جرت عمليات إغلاق دائمة: فقد أفادت شبكة قدس الإخبارية (ومقرها الضفة الغربية) أن صفحتها على فيسبوك حُذفت نهائيًا في خضم الأحداث. تكرر الأمر مع صفحات توعوية مثل Let’s Talk Palestine على إنستغرام التي تعرضت للإيقاف المؤقت، قبل أن تزعم ميتا لاحقًا أنها أوقفت بعض تلك الحسابات احترازيًا بداعي “شكوك بحدوث اختراق أمني”. لكن خبراء ونشطاء رقميين شككوا في هذه التبريرات ورأوا فيها استهدافًا ممنهجًا للأصوات الفلسطينية المؤثرة. يُذكر أن حتى تحقيقات صحفية استقصائية حول سياسات ميتا نفسها لم تسلم؛ فقد حذف فيسبوك عام 2023 حساب الصحفي في قناة الجزيرة تامر المسحال بعد 24 ساعة فقط من بثه تحقيقًا تلفزيونيًا حول رقابة ميتا على المحتوى الفلسطيني، مما اعتبره كثيرون دليلًا على ضيق الشركة بأي تسليط للضوء على ممارساتها.
المحصلة أن طبيعة المحتوى المستهدف كانت في معظمها مواد إعلامية وتعبيرية مشروعة: من صور ضحايا وانتهاكات على الأرض، إلى توثيق جرائم حرب محتملة، إلى تعليقات تضامن ودعوات لوقف القصف، وصولًا إلى نقل تصريحات أو مواقف متعلقة بالحرب جميعها وقعت تحت مقص الرقابة الرقمية بذريعة مكافحة الإرهاب والعنف، بينما بقي محتوى آخر يحض على العنف والكراهية ضد الفلسطينيين متاحًا بقدر أكبر. وقد أشارت منظمة العفو الدولية إلى ازدياد هائل في المحتوى الذي يمجّد هجمات الجيش الإسرائيلي على المدنيين في غزة ويدعو لتدمير القطاع بالتوازي مع قمع المحتوى الفلسطيني، مما يعكس ازدواجية معايير المنصات في إنفاذ سياساتها. هذا الخلل أضرّ بشدة بقدرة الفلسطينيين على إيصال روايتهم ومشاركة حقائق معاناتهم خلال الحرب، وشكّل امتدادًا للظلم الواقع عليهم في الميدان ولكن هذه المرة على ساحة الإعلام الرقمي العالمي.
التحليل القانوني: مسؤولية ميتا وحرية التعبير وحقوق الإنسان
أثارت ممارسات ميتا الرقابية في هذا السياق أسئلة قانونية وأخلاقية حول التزامات الشركة بحماية حرية التعبير والحق في الوصول للمعلومات. فعلى الرغم من أن شبكات التواصل هي شركات خاصة، إلا أنها وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان ملزمة باحترام هذه الحقوق وعدم التمييز في تطبيق سياساتها. تؤكد مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان أن على الشركات مسؤولية مستقلة عن احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في حرية الرأي والتعبير، وتجنب المساهمة في انتهاكات هذه الحقوق. وفي حالة ميتا، خلصت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن سلوك الشركة لم يرقَ إلى مستوى واجباتها في العناية الواجبة بحماية حقوق الإنسان. فبدلاً من اتخاذ موقف متوازن، انحازت خوارزميات وسياسات ميتا ضد طرف معيّن (المحتوى الفلسطيني) مما يمثل، من منظور حقوقي، انتهاكًا لمبدأي الضرورة والتناسب اللذين يجب أن يحكما أي قيود على حرية التعبير. إذ يُفترض أن تُحذف المنشورات الداعية بشكل صريح للعنف أو الكراهية فقط، لا أن يُكمّم الخطاب السياسي السلمي أو التغطية الصحفية المحايدة بحجة أن “طرفًا حكوميًا يعتبرها غير مناسبة”.
الخطير أيضًا أن ميتا منحت الحكومة الإسرائيلية امتيازًا استثنائيًا للتأثير على المحتوى عالميًا خارج نطاق سلطتها القضائية. فطلبات الإزالة الإسرائيلية لم تقتصر على منشورات داخل إسرائيل، بل استهدفت محتوى من عشرات الدول، وقبلتها ميتا وأزالتها دوليًا. هذا يطرح إشكالية قانونية حول سيادة الدول على الفضاء الرقمي وحرية التعبير عبر الحدود: فهل يحق لحكومة فرض رؤيتها على خطاب مواطنين في دول أخرى عبر شركة خاصة؟ إن امتثال ميتا شبه الكامل للطلبات الإسرائيلية دون تمحيص أو شفافية كافية يتعارض مع التزاماتها المعلنة بحماية حرية التعبير. حتى مجلس الإشراف المستقل التابع لميتا (Oversight Board) أوصى الشركة بتحسين الشفافية بخصوص الطلبات الحكومية التي تؤدي لحذف عالمي للمحتوى. لكن يبدو أن هذه التوصيات لم تُنفَّذ فعليًا خلال أزمة 2023، حيث فضّلت ميتا الاستجابة الفورية لضغوط حكومة الاحتلال على حساب حقوق مستخدميها. وقد وصف معهد Business for Social Responsibility في تقرير سابق عام 2021 سياسات ميتا إبان أحداث الشيخ جراح بأن الخوارزميات لديها ميول “فرط في التطبيق” ضد المحتوى العربي مقارنة بمحتوى بلغات أخرى كالعبري، مما يعني تمييزًا ذا طابع عرقي/قومي في الإنفاذ. واستمرار هذا النهج خلال حرب 2023 يؤكد أن الشركة لم تصحح مسارها.
من المنظور القانوني لحرية التعبير، يُعتبر حجب الرواية الفلسطينية وقمع التغطية الحقوقية والإعلامية السلمية مساسًا جوهريًا بحرية الصحافة وحق الجمهور الدولي في المعرفة. كما أنه يقوّض جهود التوثيق والمساءلة؛ فكثير من المحتوى الذي أزالته ميتا كان يتضمن مواد توثيقية لانتهاكات إنسانية وجرائم حرب محتملة. حذف هذه المواد يطمس أدلة رقمية مهمة كان يمكن أن تُستخدم قانونيًا أو إعلاميًا لمحاسبة المسؤولين عن التجاوزات. لذلك انتقدت منظمات حقوقية تصرف ميتا بوصفه انحيازًا يُسهِّل الإفلات من المسؤولية، وحذرت من أن الشركات التقنية لا ينبغي أن تكون أداة في يد طرف ينتهك حقوق الإنسان. وفضلًا عن ذلك، ازدواجية المعايير تبرز بوضوح: فبينما سارعت ميتا إلى إزالة أي مشهد يتعلق بضحايا إسرائيليين ثم تراجعت جزئيًا تحت ضغط الانتقادات، لم تبدِ حرصًا مماثلًا لإبقاء محتوى يوثّق الضحايا الفلسطينيين، رافضةً طلبات متكررة من المجتمع المدني للسماح باستثناءات محدودة لسياساتها كي تُعرَض حقائق معاناة المدنيين في غزة. هذا الموقف يدل على انحراف عن مبدأ الحياد الواجب على المنصات اتباعه، ويجعل ميتا عرضة للاتهام بالتمييز السياسي.
من ناحية أخرى، يواجه مستخدمو المنصة الفلسطينيون وأنصارهم فراغًا قانونيًا في الانتصاف لحقوقهم الرقمية، إذ لا توجد آليات فعالة لمساءلة شركة بحجم ميتا قضائيًا على قرارات رقابتها العالمية. مع ذلك، بدأت تلوح في الأفق جهود تنظيمية: فقد أدت الأزمة إلى زيادة الدعوات لوضع ضوابط تشريعية تلزم منصات التواصل بالشفافية وعدم التمييز. ففي أوروبا، على سبيل المثال، يخضع فيسبوك وإنستغرام لقانون الخدمات الرقمية (DSA) الذي يوجب تقييمات لمخاطر تأثير سياسات المنصات على الحقوق الأساسية. كما أن تحقيقات صحفية وبرلمانية انطلقت في بعض الدول الغربية للتحقق مما إذا كانت ممارسات ميتا تنتهك التزاماتها المعلنة. ورغم عدم حسم تلك المساءلة بعد، فإنها تشير إلى أن ميتا قد تواجه تبعات قانونية أو تنظيمية إن استمرت في نهجها الحالي دون إصلاحات حقيقية تراعي معايير حقوق الإنسان وحرية التعبير.
(احتجاجات خارج مقر شركة ميتا على فرض الخناق على المحتوى الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي، تصوير: طيفون كوسكون / Getty Images)
سياسات منصات أخرى: X (تويتر) ويوتيوب وتيك توك – مقارنة مع ميتا
لم تكن شركة ميتا وحدها في مرمى الانتقادات خلال حرب غزة 2023؛ فقد واجهت منصات تواصل اجتماعي كبرى أخرى بدورها اختبارات صعبة فيما يخص المحتوى الفلسطيني والإسرائيلي، وإن اختلفت مقارباتها. منصة إكس (تويتر سابقًا) مثلًا اتبعت نهجًا مختلفًا تحت إدارة إيلون ماسك، إذ قلّصت الشركة منذ أواخر 2022 فرق الإشراف على المحتوى لديها، مما ترك سيل المعلومات دون ضبط كافٍ. بعد 7 أكتوبر انتشرت على X كما هائل من الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة حول الحرب، بما في ذلك صور وفيديوهات قديمة أو خارج السياق عن غزة. وتعرضت X لانتقاد شديد من الاتحاد الأوروبي لتقصيرها في مكافحة هذه الموجة الخطيرة. أما بخصوص المحتوى الفلسطيني، فقد أفاد نشطاء أن خوارزمية المنصة قللت من وصول بعض الوسوم (hashtags) المرتبطة بالتضامن مع غزة أو الدعوة لوقف إطلاق النار، ما اعتُبر شكلًا من أشكال الحجب الناعم. بالمقابل، لوحظ ازدياد الخطاب المعادي للفلسطينيين على X دون معالجة كافية؛ إذ وثّقت منظمات تصاعدًا في المحتوى المعادي للسامية أيضًا مما خلق بيئة مستقطبة جدًا. بكلمات أخرى، بدت X متساهلة في السماح بخطابات الكراهية والعنف مقارنة بميتا، لكنها لم تكن ملاذًا آمنًا تمامًا للمحتوى الفلسطيني بسبب الفوضى المعلوماتية وغياب الحماية من الاستهداف الرقمي.
بالنسبة لمنصة تيك توك، ورغم تركيزها الأساسي على المحتوى الترفيهي، فقد أصبحت ساحتها خلال الحرب مزدحمة بمقاطع إخبارية وشهادات من غزة. تعتمد تيك توك على خوارزميات قوية لتوجيه المحتوى وانتشاره، ويشير مستخدمون إلى أنهم لمسوا انخفاضًا مفاجئًا في معدلات الوصول والتفاعل على الفيديوهات الداعمة لفلسطين. على سبيل المثال، ذكر ناشط إعلامي أنه نشر مقطعًا يتحدث عن الإبادة في غزة حظي في البداية بانتشار واسع، ثم فجأة توقف التفاعل وكأنه كُتم دون تفسير. هذا يلمح إلى احتمال استخدام تيك توك لآليات خفية لتقييد بعض المحتوى السياسي الحساس أو ما يُعرف بالـ Shadow Banning أيضًا، وإن لم تصرّح الشركة بذلك علنًا. من جهة ثانية، حظرت تيك توك بشكل صريح كثيرًا من المحتوى العنيف أو الدموي المتعلق بالحرب تماشيًا مع سياساتها ضد المشاهد الصادمة. كما أنها أعلنت التزامها بإزالة أي دعاية لـ”منظمات إرهابية” على منصتها، ما يعني حذف أي مواد دعائية لحماس أو غيرها فورًا. لكن رغم هذه الوعود، انتقدها البعض لتأخرها في إزالة بعض المحتويات أو السماح أحيانًا بخروج مواد عن سياقها. عمومًا، صورة تيك توك كانت وسطية: لا هي انفتحت تمامًا للمحتوى الفلسطيني (خشية مخالفة سياساتها)، ولا هي قمعت كل الأصوات بشكل ممنهج كميتا، بل حاولت موازنة الأمر عبر ضبط المحتوى العنيف والمضلل.
أما يوتيوب (التابع لشركة غوغل/ألفابت)، فهو ذو سياسة صارمة تقليديًا تجاه المحتوى العنيف وخطاب الكراهية. بعد 7 أكتوبر، أكدت يوتيوب أنها ستحذف أي محتوى يتضمن تمجيدًا لمنظمات مصنفة إرهابية أو مشاهد قاسية بدون سياق. عمليًا، أزالت يوتيوب سريعًا كثيرًا من مقاطع الفيديو التي بثتها كتائب القسام (الجناح العسكري لحماس) أو مقاطع لأسرى وقتلى من الجانب الإسرائيلي باعتبارها تخالف معاييرها. في الوقت نفسه، سمحت يوتيوب ببعض التغطيات الإخبارية حتى وإن احتوت مشاهد مؤلمة شرط أن تكون بغرض التوثيق وليس التمجيد. مع ذلك، واجهتها اتهامات بإفساح المجال لدعاية الحرب الإسرائيلية عبر الإعلانات المموّلة: فقد كشفت حملة أن منصة يوتيوب عرضت إعلانات مدفوعة من وزارة الخارجية الإسرائيلية تروج لروايتها عن حرب غزة لملايين المشاهدين في أوروبا، رغم أن بعضها تضمن لقطات صادمة أو رسائل تحض على العنف. وبذلك تكون يوتيوب وإن التزمت ظاهريًا بسياسة محتوى متوازنة، إلا أنها استفادت تجاريًا من الحرب عبر الإعلانات الموجّهة، حتى لو خالفت تلك الإعلانات معايير حقوق الإنسان كما تشير التقارير. وهذا جانب آخر من المشهد، حيث يتقاطع البعد التجاري مع القرارات السياسية للمحتوى.
بمقارنة مجملة: ميتا اتخذت نهجًا رقابيًا استباقيًا وشاملًا ضد المحتوى الفلسطيني يفوق غيرها، إذ جمعت بين الحذف الجماعي والتضييق الخوارزمي وحتى تعطيل الحسابات. بينما منصة X تراخت لدرجة سمحت بتفشي خطاب الكراهية والمعلومات الكاذبة، مما أضر بالقضية الفلسطينية بطريقة مختلفة عبر إغراق الحقيقة في طوفان التضليل. تيك توك ويوتيوب حاولا رسم خط وسط: إزالة ما يعتبرانه متطرفًا أو دمويًا من أي طرف، لكنهما وقعا أيضًا تحت تأثير ضغوط واعتبارات سياسية وتجارية أدت إلى تنازلات (مثل عدم كبح كل خطاب عدائي أو قبول إعلانات منحازة). النتيجة أن الناشطين والصحفيين المدافعين عن الرواية الفلسطينية وجدوا أنفسهم يتنقلون بين هذه المنصات لمحاولة إيصال رسالتهم، ففي كل منها عقبات مختلفة – من خوارزميات تكتم الصوت إلى محتوى مضلل ينافس الحقيقة أو سياسات غير متسقة. ورغم هذا التفاوت، تظل ميتا أبرز من يجب مساءلته نظرًا لهيمنتها الكبرى عالميًا وتأثير قراراتها على ملايين المستخدمين من الجمهور الفلسطيني والمتضامنين معه.
(احتجاجات خارج مقر شركة ميتا على فرض الخناق على المحتوى الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي، تصوير: طيفون كوسكون / Getty Images)
إحصائيات وأرقام موثقة عن الرقابة الرقمية
تجلّت حملة الرقابة على المحتوى الفلسطيني في سلسلة من الأرقام الكبيرة التي تعكس مدى اتساعها وتأثيرها. وفيما يلي أبرز الإحصائيات الموثقة المستندة إلى تقارير صحفية وحقوقية دولية موثوقة:
- معدل استجابة ميتا للطلبات الإسرائيلية: استجابت الشركة لـ 94% من أوامر الإزالة التي قدمتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر 2023. وهذا معدل امتثال غير اعتيادي يدل على تنسيق وثيق بين ميتا والحكومة الإسرائيلية فيما يخص المحتوى. وقد جعلت هذه الأخيرة نفسها أكبر مصدر لطلبات الإزالة في العالم خلال تلك الفترة.
- عدد المنشورات المحذوفة بطلب إسرائيلي: يزيد عن 90 ألف منشور قام فيسبوك/إنستغرام بحذفها بشكل فعلي استجابة لطلبات الحكومة الإسرائيلية خلال الشهور اللاحقة ل7 أكتوبر. الأغلبية الساحقة من هذه المنشورات – حوالي 95% – وُصفت ضمن فئتي الإرهاب أو العنف والتحريض وفق تصنيفات سياسات ميتا، ما يعني أن إسرائيل كانت تعتبر أي محتوى داعم للمقاومة أو حتى عارض لجرائم الحرب بمثابة “تحريض” يجب إسكات صوته.
- الإجراءات الآلية الموسّعة: بالإضافة للإزالات الفردية أعلاه، نفذت خوارزميات ميتا حملة تلقائية أدت إلى “اتخاذ إجراء” (سواء حذف أو تقييد) بحق نحو 38.8 مليون منشور إضافي عبر فيسبوك وإنستغرام منذ أواخر 2023 وحتى الأشهر الأولى من 2024. يشمل هذا الرقم الضخم حالات خفض الانتشار (Shadow Ban) أو إخفاء التعليقات والمنشورات التي رصدتها أنظمة ميتا ضمن “محتوى مخالف” بناءً على المعايير المخففة في المنطقة. أي أن هناك عشرات الملايين من التفاعلات الرقمية المتعلقة بفلسطين جرى تعطيلها أو إخفاؤها عن الأنظار خلال موجة القمع الرقمي.
- توزع الرقابة بين الطرفين: أكدت دراسة هيومن رايتس ووتش أن 99.9% من حالات الرقابة التي وثقتها في أكتوبر-نوفمبر 2023 كانت تستهدف المحتوى المؤيد للفلسطينيين. من أصل 1050 حالة، كانت 1049 حالة ضد محتوى فلسطيني سلمي مقابل حالة واحدة فقط ضد محتوى إسرائيلي. ورغم أن هذه العينة ليست مسحًا شاملاً لكل ما جرى على المنصة، إلا أنها مؤشر قوي للغاية على عدم تناسب الإجراءات وانصبابها على طرف محدد بشكل شبه حصري.
- حجم خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين: على الجانب الآخر، أظهر مؤشر العنف الرقمي الذي يديره مركز “حملة” الفلسطيني لمراقبة الانتهاكات الرقمية أنه تم رصد أكثر من 493 ألف منشور تحريضي ضد الفلسطينيين أو المناصرين لهم ضمن المحتوى العبري على منصات التواصل خلال الأسابيع التي تلت 7 أكتوبر. هذه المنشورات تتنوع بين دعوات مباشرة للعنف (مثل مطالبة مسؤولين إسرائيليين بـ”محو غزة”) وبين أوصاف عنصرية تصف الفلسطينيين بـ”أبناء الظلام” وما شابه. ويشير هذا الرقم المهول إلى فورة غير مسبوقة في خطاب الكراهية الموازي للعدوان، والذي لم يلق ضبطًا كافيًا من المنصات مقارنة بما فعلته مع المحتوى الفلسطيني.
- توثيق الانتهاكات الرقمية: وثّق مركز صدى سوشال وحملة أكثر من 5100 انتهاك رقمي لحقوق الفلسطينيين عبر المنصات خلال عام واحد من الحرب (أكتوبر 2023 – سبتمبر 2024). وهذه الانتهاكات تشمل حذف حسابات ومنشورات وحظر محتوى وتقييد وصول، فضلًا عن رصد المحتوى التحريضي ضدهم. هذا الرقم يبيّن حجم الظاهرة واستمراريتها لما بعد ذروة الحرب. كما يشير التقرير نفسه إلى تورط التقنية في تعميق الانتهاكات الواقعة على الأرض، عبر الذكاء الاصطناعي المستخدم لتحديد أهداف عسكرية أو قطع الاتصالات والإنترنت عن غزة كوسيلة حرب، ما يضع شركات التكنولوجيا أمام مسؤولية كبرى.
- حالات بارزة: يمكن الإشارة أيضًا إلى بعض الحوادث المفصلية بالأرقام، مثل حادثة ترجمة إنستغرام حيث تأثر بها عدد غير محدد بدقة من المستخدمين الفلسطينيين قبل إصلاح الخطأ، وحادثة إغلاق حساب الجزيرة – تامر المسحال في سبتمبر 2023 والذي كان يتابعه ما يزيد عن 200 ألف شخص (قبل حذفه بـ24 ساعة من كشف تحقيقه). كما تجدر الإشارة إلى وصول حملة “#أوقفوا_إسكات_فلسطين” (#StopSilencingPalestine) إلى توقيع عشرات الآلاف حول العالم على عريضة تطالب ميتا بتغيير سياساتها، مما يعكس تنامي الوعي الجماهيري بالأرقام والوقائع حول هذه الرقابة.
بشكل عام، تبرهن هذه الإحصائيات على أن ما جرى لم يكن حالات فردية معزولة وإنما توجه عام ممنهج. إنها أرقام ترسم صورة رقابة رقمية واسعة النطاق استخدمت فيها أدوات التقنية الحديثة لقمع محتوى طرف واحد في الصراع، في وقت بلغت فيه الحاجة لصوت هذا الطرف ذروتها لإيصال مأساة إنسانية حقيقية إلى العالم.
خاتمة: توصيات للصحفيين والباحثين والنشطاء الحقوقيين
ختامًا، أمام هذا المشهد المعقد من الرقابة الرقمية، يبرز دور الصحفيين والباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان في التصدي للانحياز الرقمي وحماية حرية التعبير الفلسطينية على المنصات. فيما يلي جملة من التوصيات التي يمكن أن تسهم في تحقيق ذلك الهدف:
- للصحفيين والإعلاميين: ينبغي تكثيف العمل الاستقصائي لكشف سياسات شركات التواصل وتوثيق حالات الرقابة والتحيّز. إن إعداد تقارير معمّقة (مثل تحقيقات الميادين الرقمية والجزيرة وغيرها) يسلط الضوء للرأي العام على هذه الممارسات ويسائل الشركات أمام جمهورها. كما يتعين على الصحفيين تنويع منصات النشر لضمان وصول المحتوى؛ فإذا حُذف المنشور على فيسبوك مثلًا، فيجب نشره على مواقع مستقلة أو منصات بديلة أكثر مرونة، مع الإشارة إلى واقعة الحذف كجزء من القصة. ومن المهم أيضًا التعاون مع زملاء تقنيين لفهم خوارزميات الوصول وضبط الكلمات المفتاحية بحيث لا يسهل على الآلة حجب المحتوى (دون الإخلال بأمانة النص)؟
- للباحثين والأكاديميين في مجال الإعلام وحقوق الإنسان: يتوجب مواصلة الرصد الكمي والنوعي المنهجي لظاهرة الرقابة الرقمية. إن إجراء دراسات إحصائية موسعة (على غرار توثيق هيومن رايتس ووتش وحملة) يساعد في توفير أدلة ملموسة للانتهاكات. كما يُستحسن تطوير أرشيفات رقمية لحفظ المحتوى المحذوف، سواء عبر برامج استعادة أو باستخدام بروتوكولات لامركزية، كي لا تضيع الشهادات والصور المهمة في مجاهل الإنترنت. وعلى الباحثين أيضًا الدفع نحو مزيد من الشفافية من قبل الشركات – مثل مطالبة ميتا بإصدار بيانات علنية تفصيلية عن طلبات الحكومات وتأثيرها – وكذلك تحسين الخوارزميات لتفهم السياقات الثقافية واللغوية المختلفة بدلًا من التسرع في وسم المحتوى بأنه إرهابي دون تدقيق بشري. هذه الجهود البحثية ينبغي مشاركتها مع المشرّعين وصناع القرار لحفز إصلاحات تنظيمية تحمي الفضاء الرقمي العام.
- للنشطاء الحقوقيين والمنظمات المدنية: من الضروري تصعيد حملات المناصرة الرقمية مثل حملة “أوقفوا إسكات فلسطين” الدولية، التي تضغط على ميتا لتغيير نهجها. التواصل المباشر مع إدارات الشركات (عبر خطابات مفتوحة وعرائض وتظاهرات رقمية) قد أثمر سابقًا في انتزاع اعتذارات أو وعود (ولو خجولة) كما حصل مع إنستغرام في قضية الترجمة. كذلك على الناشطين بناء تحالفات عالمية تربط قضية الرقابة على المحتوى الفلسطيني بقضايا مشابهة تواجهها شعوب أخرى، ما يكسبها زخمًا حقوقيًا كقضية حرية تعبير عامة وليست شأنًا محليًا ضيقًا. يجدر أيضًا استخدام أدوات بديلة لنشر المعلومات الحساسة: فمثلًا يمكن الاستفادة من منصات مفتوحة المصدر أو مدونات مستقلة أو حتى شبكات لامركزية (مثل الماستودون) لضمان استمرار تدفق المعلومات بعيدًا عن قبضة الشركات الكبرى. أخيرًا، ينبغي الاستمرار في توثيق الانتهاكات الرقمية قانونيًا والتعاون مع خبراء قانونيين دوليين لدراسة إمكانات رفع دعاوى أو شكاوى رسمية ضد التمييز الرقمي – وإن كانت مسارات طويلة الأمد – لكن مجرد طرحها يسهم في إحراج الشركات والضغط عليها لتغيير سلوكها طوعًا لتجنب التعرض لإدانة قانونية.
(احتجاجات خارج مقر شركة ميتا على فرض الخناق على المحتوى الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي، تصوير: طيفون كوسكون / Getty Images)
في المحصلة، لقد أكدت تجربة ما بعد 7 أكتوبر 2023 أنه لا يمكن الفصل بين حرية الشعب الفلسطيني على الأرض وحقه في حرية الصوت والتعبير في الفضاء الرقمي. فالمنصات الاجتماعية أضحت ساحات معارك موازية تُشكّل الرأي العام وتؤثر في مجريات الأحداث على الأرض. ومن هنا، فإن مناصرة العدالة الرقمية جزء لا يتجزأ من مناصرة العدالة الإنسانية. وعلى الصحفيين والباحثين والنشطاء أن يعملوا معًا، بتبادل المعلومات والأدوات والاستراتيجيات، لضمان ألا تتحول منصات التواصل إلى أسلحة لإسكات الضحايا بدلًا من أن تكون منابر لإسماع أصواتهم. إن تحقيق قدر أكبر من التوازن والإنصاف في سياسات الشركات الرقمية ليس مهمة سهلة، لكنه هدف نبيل يستحق بذل الجهود المشتركة من أجل الوصول إليه، تكريسًا لمبدأ أن حقوق الإنسان يجب أن تكون مصانة في العالم الافتراضي تمامًا كما نسعى لحمايتها في العالم الواقعي.
- يمكن تحميل وقراءة النسخة الكاملة PDF من الدراسة أدناه، أو عبر الرابط التالي:
🔗 اضغط هنا لتحميل الدراسة
Meta-vs-Palestinian-Content-2023
قائمة المراجع
- وول ستريت جورنال – نقاش داخل ميتا حول الرقابة على تعليقات من فلسطين
- DropSite News – “بيانات مسربة تكشف عن حملة إسرائيلية واسعة لإزالة المنشورات المؤيدة لفلسطين على فيسبوك وإنستغرام”
- ذا إنترسبت – إنستغرام أخفى تعليقًا يتضمن فقط رموز العلم الفلسطيني
- هيومن رايتس ووتش – وعود مكسورة من ميتا: الرقابة المنهجية للمحتوى الفلسطيني
- مركز الشفافية – تقارير تنفيذ معايير مجتمع ميتا
- حملة – تقرير الانتهاكات الرقمية 2023
- AccessNow – الأزمة الحقوقية الرقمية في غزة
- منظمة العفو الدولية – الفصل الرقمي الإسرائيلي
- الجزيرة – فلسطين تحت الرقابة الرقمية
- مراسلون بلا حدود – ميتا تخوض حربًا منهجية ضد الصحافة منذ عقد
- The Electronic Intifada – عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي يقمعون المحتوى الفلسطيني
- مجلس الإشراف – توصيات إلى ميتا حول الرقابة
- تقرير BSR لصالح ميتا حول التحيز في سياق إسرائيل/فلسطين
- قانون الخدمات الرقمية – الاتحاد الأوروبي
- Politico – تويتر/X تلقى إنذارًا من الاتحاد الأوروبي بشأن المعلومات المضللة
- سياسات يوتيوب الإعلانية – المحتوى المتعلق بالصراعات
- غرفة أخبار تيك توك – سياسات السلامة ومكافحة المعلومات الكاذبة