لا شك في أن الحرب على غزة بتاريخ 7 أكتوبر مختلفة بكل المقاييس، فهي تضرب كل ما هو حي، ويمكن أن ينبض بالحياة؛ فلم يعد مجالاً للهروب من هذا الوجه الشاحب والجسم النحيل المحاصر من الزوايا كلهم، وفي كل شيء، لم يكن عاديا اليوم الذي بدأت فيه شائعات دعوات النزوح للجنوب من الشمال والإعلان أن كل شيء في شمال القطاع سيكون محروقا حسب تقسيم الاحتلال حتى أن أصبح حقيقة مع بدء القصف العنيف على البيوت والمناطق السكنية على شكل أحزمة نارية تدفن المساكن بساكنيها تحت الأرض، ولن يكون هناك أي فرصة للنجاة المعقولة.
نجاة متكررة
كنت أسكن في حي اليرموك، والذي يحده شارع الجلاء الرئيسي بغزة؛ ويعتبر من أكثر المناطق هدوءا واستقرار قبل الحرب، والذي لم يكن في مخيلتي وأسرتي أن هذه المنطقة، والتي تضم عمارة تاج هوم 3 ستضربها عدة صواريخ أدت إلى إصابة جميع أفراد أسرتي ما جعلنا ننتقل مضطرين لمدرسةٍ تُستخدم كمركز للإيواء، وبعد ضرب محيط المدرسة بعدة صواريخ أدت إلى تناثر الشظايا داخل المدرسة، وذلك قبل وقت قصير من نجاتي وأسرتي من موت محقق بعد ضرب حزام ناري أكثر من عشر طائرات حربية ألقت أكثر من خمسين صاروخاً قاتلاً في لحظة واحدة على أكثر من 40 بيتاً في منطقة تاج هوم 3 مكان شقتنا التي أصبحت تحت الأرض ومعها كل من يسكن العمارة، والذي تجاوز عددهم 200 شهيد؛ ولولا رعاية الله لكُنّا من المفقودين تحت الأرض بين أطنان الركام.
فقدان مقومات العمل
فقدت في هذا القصف كل أدوات عملي الإعلامي كمختص في مجال الإعلام الاجتماعي، بجانب انقطاع الكهرباء والإنترنت عن كامل مناطق شمال القطاع، حيث كانت النجاة بالروح نتيجة هذه الفاجعة وهي واحدة من آلاف المجازر التي ما زال يرتكبها الاحتلال بعد اجتياحه البري لقطاع غزة؛ والذي دخل المناطق تحت اسم (ساحة قتال) مستخدما عقيدة الأرض المحروقة، ويطلب من جميع سكان المنطقة النزوح القسري للجنوب أو الموت بالصواريخ إذا لم تتم الاستجابة؛ فانتقلنا لحي الشجاعية حيث بيت العائلة، وبعد أيام قليلة قُصِف البيت بشكل عنيف لننجو للمرة الثانية، ولكن هذه المرة مع إصابات أشد خطورة وشهداء من العائلة لعدد من الشباب والأطفال الرضع.
إصابات بليغة
بعد البحث عن مكان آخر نحتمي فيه مجددا انتقلنا للبلدة القديمة في غزة حيث كان قد زعم الاحتلال في وقتها أنها ليست ساحة قتال، وإنما منطقة آمنة، لنتفاجأ في الليلة نفسها بقصف عمارة بجانب البيت الذي نأوي فيه ببرميل متفجر دمر كل شيء في المنطقة ليقع ركام العمارة والأشلاء فوق رؤوسنا، حتى إنه وقع جدار كبير فوقي وابني الصغير التي يبلغ من العمر أربع سنوات ليتم سحبنا من تحت هذا الركام بقدرة الله، وأصيبتا أيضا زوجتي وبنتي الرضيعة إصابة بالغة في رأسها، والتي عمرها من عمر الحرب؛ حيث كان عمرها في وقت الضربة أسبوعين، وبقيت بدون إسعاف مدة يومين، ونحن نحاول أن ننقذها، فقد كان الأمر مستحيلا أن تحصل على سيارة إسعاف أو مكان للعلاج بعد تدمير كل هذه المقومات بشكل كامل.
الاعتقال
بعد أيام الهدنة السبعة المؤقتة وإعلان مناطق التفاح والدرج والشجاعية والبلدة القديمة في غزة ساحات قتال، طلبوا عبر منشورات واتصالات متكررة؛ المغادرة نحو غرب غزة، وتم رسمها ضمن الخارطة المنشورة على صفحات الاحتلال على الإنترنت ومطبوعة في منشورات رُمِيَت على السكان؛ أنها أراض آمنة، ويمكن العودة إليها، كل هذا القصف العنيف وضعنا تحت ضغط الاستجابة؛ فانتقلنا لشقة سكنية بعمارة في منطقة الإسعافات بحي النصر، وبعد ما يقارب يوماً من جلوسي وأسرتي وعدد من الأقارب في الشقة تفاجأنا بحصار المكان بشكل كامل من قبل قناصة الاحتلال، وكنا ننظر من شبابيك العمارة نشاهد الجثث التي يتم قنصها، ويبدو أنها تحاول الحصول على الماء والطعام؛ فوجدنا أنفسنا في الوضع نفسه بعد خمسة أيام حُوصِرْنَا فيها بدون ماء وطعام وحتى حليب الأطفال الرضع.
أصبحنا بين نار الجوع والعطش أو الخروج من المكان والقتل، بعد هذه الأيام العجاف حاصرت دبابات الاحتلال العمارة السكنية حيث تمركزت دبابة أمام باب العمارة، ومن الخلف بدأ إطلاق النار بشكل متقطع، حتى زاد بشكل مباشر على الشقة في الطابق الأرضي، فهربنا مع النساء والأطفال لشقة في الطابق الرابع لحمايتهم من الضرب المباشر، لنتفاجأ بتفجير باب العمارة والدخول للشقة بشكل عنيف من قبل وحدة خاصة يبدو عددها 15 جندياً؛ مدججين بالسلاح وصوبوا أسلحتهم نحونا حيث فصلوا النساء والأطفال على جهة، ومنعوهم من الحركة في جو من الرعب والخوف؛ وطلبوا منا الرجال خلع جميع الملابس عدا ما يغطي العورة بعد استجداء من النساء بعدم فعل ذلك دون نتيجة.
كبلوا أيدينا خلف ظهورنا بشكل قاس؛ وطلبوا سحب جميع ما نملك من مقتنيات منها أجهزة الجوال والمحافظ والحقائب التي تحتوي الأموال والبطاقات الشخصية للرجال والنساء، وطلبوا من النساء والأطفال الذهاب (للجنوب!) حيث إنه يُعتبر طلب خيالياً ومستحيلاً فكيف يمكننا الانتقال في ربع ساعة تحت التهديد! وإذا لم يتم الانصياع للأوامر سيتم قصفنا بشكل مباشر من طائرات الاستطلاع، فاقتادونا نحن الرجال تحت الضرب، في مشهد مروع بين رتل دبابات وعدد كبير من الجنود المترجلين إلى عمارة سكنية اتخذها الاحتلال مركزاً للاعتقال والتحقيق الميداني تبعد أكثر من كيلو متر مشيا على الأقدام الحافية.
وبعدها عصبوا أعيننا بشدة، وكان جنود الاحتلال يحرقون وجوهنا وأجسادنا بالسجائر والولاعات والشتم بأفظع الشتائم التي تهتك الكرامة والشرف والركل بالأقدام وأعقاب الأسلحة على الرأس والظهر بشكل قاتل، جَرُّونا لأعلى العمارة، وسحبونا على البلاط البارد المليء بالزجاج المكسور، وطلبوا منا الجلوس على شكل U الوضعية الأكثر إجهادا في الجلوس حيث بعد وقت قصير فقدت السيطرة على أقدامي، وشعرت بثقل كبير في يدي؛ وخلال هذا الحال ضُرِبْت بشكل قاسٍ بسلاح M16 على ظهري ورأسي، الأمر الذي أصابني بدوار لا يوصف، وطلبوا مني شتم فلسطين وشعبها، وأن أرددَ (يعيش شعب إسرائيل وتحية ل IDF!)؛ وهذا الطلب تكرر مع المعتقلين الآخرين معي، ومنهم شباب بعمر 16 سنة ورجال بعمر 60 سنة؛ ومنهم رجل مشلول اليدين، وبعد عدة ساعات من البرد القارس كنتُ فيها مُلْقَىً على الأرض في مهب الريح تحت شباك مكسور بدأتُ أفقدُ السيطرة على جهازي العصبيّ، وطلبت مرات عديدة من الجنود تحرير يدي من القيود، قوبل طلبي فيها بالرفض والتعنيف والشتم، بعد وقت جاء جندي يهمس في أذني (إذا كنت تحب ما حدث في 7 أكتوبر سأقوم بقتلك) الأمر الذي بث الرعب في قلبي، لأنني في هذه الحالة لا أعرف ما الذي يمكن أن يفعله جندي مكلف فقط بحراستك!
تحقيق قاسي
بعد ساعات جاء ضابط يجيد اللغة العربية ومعه حراسات اقتادني لمكان مظلم جدا وفك العصبة عن عيني، لأجدَ نفسي أجلس في حمام على المرحاض وجندي يصوب سلاحه على رأسي، ويجلس أمامي ضابط؛ ففهمت أنني تحت التحقيق الميداني المباشر، وَجَّه لي أسئلة تفصيلية عن طبيعة عملي وتأثيره في الحرب وسبب تواجدي في المكان الذي اُعْتُقِلْت فيه وعن علاقتي بأي نشاط حول تأييد 7 أكتوبر وما هو موقفي منها، وعن أماكن النزوح التي لجأت إليها وعن سبب عدم توجهي لجنوب القطاع؛ وعن مسار تنقلي طيلة هذه الفترة؛ كان الضابط يضربني على وجهي بقوة، ويطلب مني الاستجابة، وفي جو مرعب لعدة ساعات، قال لي أنني لدي ستة أولاد، ويجب أن أحافظ عليهم، وأنه إذا ثبت لديه أنني لي أي علاقة ب 7 أكتوبر سيقتلني في مكاني!
ظروف احتجاز لا إنسانية
بعد ساعات في التحقيق أرجعوني للمكان الأول مكبل الأيدي ومعصوب العينين في نفس الجو البارد، حتى كدت أن أصاب بانهيار، طلبت شرب الماء تم الرفض، طلبت التوجه للحمام أُجِّلَت الاستجابة بشكل عنيف، وشُتمت بشتائم نابية، حتى وقت طويل استجابوا لي، واصطحبني جندي لداخل حمام مفتوح، خلال هذا الرفض كنت أسمع صوت الجنود يشربون ويأكلون ويضحكون على صوت الانفجارات التي كانت في محيط مكان اعتقالنا بشكل فيه خطر كبير على حياتي، طلبت ملابس أو أي شيء للتدفئة تم الرفض، وبعد ساعات جاء الجندي بخرقة من قماش لا تغطي نصف الجسد، حاولت أن أتأقلم معها، فتمددت لأستلقي على جنبي لأرتاح ركلني حينها الجندي بقسوة، وقال ممنوع النوم، كنت أرتدي نظارة مع اشتداد العصبة على عيني طلبت أن يُخَفَّف عني، ففك الجندي العصبة، وضرب النظارة في الأرض، فكسرها وثم عاود ربط العصبة بقوة.
ظروف الإفراج
على هذه الحالة، حتى سمعت صوت الضابط يقول (بوكر توف؛ ساعة ٧؛ يلا تعال انزل)؛ سحبوني الجنود من مكاني، وأنزلوني بدون أن أرى شيئاً على درج العمارة، وتعثرت كثيرا حتى إنني شعرت أن الطريق لا تنتهي ففتح باب قبو العمارة وفك العصبة، وما زلت مكبل اليدين ومجرد الملابس، لأجد نفسي بين عدد من الدبابات المفتوحة، وعلى طول الطريق عدد كبير من جنود القناصة يعتلون العمارات، طلب من جندي أن أتوجه على طول الشارع، وأن اعتلي تلة من ركام مزروع عليها علم إسرائيل؛ وأن لا ألتفت (تخيلتُ حينها أنها لحظة إعدامي) لكن طلب مني الجندي أن أمشي بشكل مستقيم حتى أغادر المنطقة؛ دون أن يدلني على أي منطقة يصنفها الاحتلال آمنة؛ بعد مشي أكثر من كيلو ونصف وجدت عدداً من الناس ألبسوني ما توفر لديهم من ملابس، وكنت بالكاد أصل حيث إنني أعاني من ضعفٍ كبير في نظري بعد كسر الجندي لنظاراتي.
آثار صحية بليغة
هنا بدأت مرحلة جديدة من البحث عن أسرتي، وكلي خوف وقلق على مصيرهم؛ حيث إنهم خرجوا في ظروف مرعبة وقاسية، فتنقلت بين مراكز الإيواء وأنا في حالة مزرية، حتى توفقت بعد وقت طويل من الاستدلال على مكان نزوحهم في شمال القطاع، وأنا بعد أيام من الخروج من الاعتقال وظروفه القاسية، أعاني مشاكل صحية كبيرة من الانهيار العصبي المفاجئ والإجهاد الجسدي السريع ومشاكل في النظر، تحتاج كثيرا من الرعاية والاهتمام مع فقدان هذه الإمكانية في أجواء الحرب المستمرة وفقدان مقومات الإغاثة والعلاج.
شهادة لموقع قصة غزة
الإعلامي سائد حسونة
غزة – فلسطين
2 يناير 2024